السلطة الرابعة «بعبع» الحكومة

TT

بذل زعيم حزب العمال الحاكم رئيس الوزراء غوردون براون أقصى الجهود لجمع شمل الحزب في خطبته للمؤتمر السنوي العام في برايتون يوم الثلاثاء الماضي، متخليا عن سياسات سابقه توني بلير بتوجهه إلى دائرة التصويت التقليدية للحزب وهي الطبقة العاملة والاتحادات العمالية، بعد أن وضعت استطلاعات الرأي الحزب الذي بقي في السلطة 13 عاما في مؤخرة القائمة، بعد حزبَي المحافظين والديموقراطيين الأحرار.

خطبة براون ـ وهي الأفضل في تاريخه السياسي ـ لم تكن بؤرة اهتمام الأعضاء، مثل شعارات نائبته هاريت هارمن، المناضلة النسوية التي تحولت إلى مادة للسخرية الصحفية بمطالبتها السفير الأمريكي وحاكم كاليفورنيا الممثل أرنولد شوارتزنيغر، بإغلاق موقع على الإنترنت يقيم فيه السياح الأمريكيون بائعات الهوى اللندنيات. فالمدام هارمن نسيت أن المادة الأولى من الدستور الأمريكي تقدس حرية التعبير.

صحيفة الصن الشعبية أصبحت بؤرة الاهتمام بعد سرقتها الأضواء من عتاولة حزب العمال.

بلغت الدراما السياسية ذروتها الهزلية بتمزيق توني وودلي، زعيم أكبر الاتحادات العمالية نسخة من الصن أمام كاميرات العالم، رغم أنها الصحيفة المفضلة للطبقات العاملة التي يدّعي حزب العمال تمثيلها. فالاتحادات العمالية تتبرع بالملاين سنويا للحزب الذي اكتسب اسمه منها «العمال» labour (تأسس عام 1900 بعد خوض المجموعة العمالية انتخابات 1895) متفرعا من الجمعية النقابية التي أسسها الاشتراكيون (1884) في لندن كالكاتب المسرحي الأيرلندي الساخر جورج برنارد شو (1856 ـ 1950)، بل كانت التبرعات للعمال في بريطانيا تصل من اشتراكيين مصريين كسلامة موسى (1857 ـ 1958) وبعض الجمعيات النقابية اليسارية المصرية (التي أسسها أوروبيون ـ بما فيهم يهود ـ تمصروا وكافحوا مع رفاقهم المصريين كقادة محليين لثورة 1919 بزعامة سعد زغلول باشا 1859 ـ 1927).

في تغليب للعاطفة على المنطق، ناشد وودلي مليونين من أعضاء اتحاده «بمقاطعة شراء (الصن)»، وقلدته المدام هارمن وزيرة شؤون النساء، باتهامها الصن بخيانة نساء بريطانيا في الصفحة الثالثة، دائما بصورة لفتاة جذابة أحيانا ما تعرّي صدرها، رغم أن التباهي بجمال الأنوثة هو من صميم ثقافة الطبقة العاملة.

موقفا هارمن ووودلي كانا نموذجا «لنضال» مثقفي الطبقة الوسطى في الإعلام بمهاجمة رموز يرونها مخالفة لآيدولوجيتهم، بدلا من النزول إلى أرض الواقع بحلول حقيقية ومعالجة الأسباب، ومعظمها اقتصادية، التي دفعت بائعات الهوى إلى هذا السبيل أصلا. وكانت وليمة لكتاب السخرية باللعب على الاسم «Sun» ويعني بالإنجليزية «الشمس»، بالقول إن الشمس غربت عن إمبراطورية العمال.

بدأت الحرب بين الحكومة والصن، التي توزع ثلاثة ونصف مليون نسخة، مما يعني أن المطلعين عليها يتجاوزون 11 مليونا، بإعلان الزميل جورج باسكو ـ واطسن المحرر السياسي للصن في «بي بي سي» أن صحيفته تخلت عن العمال وستدعم المحافظين.

الصن جزء من إمبراطورية روبيرت مردوخ بما فيها «التايمز» و«الصاندي تايمز» و«نيوز أوف ذي ورلد» (أكثر الصحف رواجا في العالم الأنغلوساكسوني) وعدد معتبَر من الصحف المحلية والراديو وشبكة «سكاي نيوز» التلفزيونية التي تغطي أوربا والشرق الأوسط وتصل إلى الصين وشبه القارة الهندية، وزميلتها المتأدلجة، والأقل حرفية «فوكس نيوز» الأمريكية.

بلغ الذعر في صفوف العمال إلى درجة أن تصبح الصحيفة ـ التي يحتقرها المثقفون، خصوصا اليساريين منهم، من أبناء الطبقات الوسطى ويسمونها بالصحافة الصفراء وصحافة الفضائح ـ محور اهتمام المؤتمرين والإعلام. السبب أن فلكولورفليت ستريت (شارع الصحافة البريطانية) ضخّم من تأثير الصن في الحياة السياسية.

الصن تتفاخر لعقدين بتعديلها ميزان الرأي العام في الأسابيع الأخيرة من انتخابات 1992 لصالح المحافظين، عندما أشارت استطلاعات الرأي وقتها إلى تفوق العمال، لكن المحافظين فازوا وسقط العمال.

ركزت الصحيفة وقتها في إنجلترا على مهاجمة زعيم العمال نيل كينوك وجردته من كل مقومات الزعامة، بينما ركزت طبعتها الاسكتلندية على إذكاء النعرة القومية للاسكتلنديين التي تكره الإنجليز، فانقسمت أصوات ناخبي اليسار والوسط بين الحزب القومي الاسكتلندي، وحزبي العمال والأحرار، تاركين فراغا للمحافظين ليفوزوا بـ11 مقعدا اسكتلنديا شكلت أغلبيتهم في مجلس العموم.

كان هذا زمن ما قبل الإنترنت، فتشكيل الرأي العام اليوم لم يعد حكرا على الصن وأخواتها، فهناك المدونات ومواقع توصل الأخبار إلى التليفون المحمول، والإنترنت تتيح للجميع مشاهدة مئات الشبكات التلفزيونية قراءة آلاف الصحف.

ولذا ففقدان دعم الصن هو تأثير سيكولوجي أكثر منه واقعيا على معنويات الحزب الحاكم وناشطيه، وبالتالي فقدانه لأصوات كان يعتقدها مضمونة.

ميردوخ بإمبراطوريته تقليديا مع الحكومة ـ أي حكومة بصرف النظر عن لونها أو أيدولوجيتها ـ هو رجل أعمال هدفه الأول تحقيق الربح من بيع سلعة إعلامية والأمر لا علاقة له بأي موقف أيدولوجي أو مصلحة قومية، فقرار ميردوخ بدعم موقف الحكومة سببه اقتصادي بسيط.

فمن المنطقي أن الحزب الحاكم حصل على أغلبية الأصوات ليحكم، وبالتالي يتفق مزاج الأغلبية من مستهلكي السلعة الإعلامية من قراء ومستمعي ومتفرجي شبكتَي «سكاي» و«فوكس نيوز» مع الموقفين الاقتصادي والسياسي للحكومة. فالتزام صحافته بهذا الخط يعني ضمان شراء الأغلبية لها.

فالثابت علميا أن 95% من قراء الصحيفة يشترونها كل صباح، لا لمعرفة خبر جديد (لأن الخبر نقلته الفضائيات وشبكة الإنترنت فور، وربما في أثناء، وقوعه) وإنما لطمأنة نفسه سيكولوجيا بأن الإعلام (ممثَّلا في صحيفته المفضلة) يشاركه وجهة نظره في الصورة الفضلى التي يجب أن يكون عليها العالم، وإذا اختلفت هذه الصورة أو تشوه أحد أركانها، فإن الدنيا كما يعرفها (الأمن القومي عند البعض، والاستقرار الاجتماعي عند الآخر، والرخاء عند الثالث) أصبحت مهددة، بدليل أن صحيفته المفضلة توافقه على هذا التحليل.

إدارة تحرير الصن، وبذكاء شديد، عرفت اتجاه هبوب الريح، فالأغلبية الشعبية (أكثر من الثلثين) أصبحت ضد الحزب الحاكم، فمع من تكون؟

ليست مع حزب من المريخ، فالعمال في مؤتمرهم السنوي تخلوا عن الطبقات الوسطى في سياساتهم الضرائبية، أي تركوا يمين الوسط، الذي كان توني بلير قد توجه إليه، فارغا، والمحافظون لديهم إمكانيات فاعلة للتحليل السياسي، وبالتالي سيندفعون من الثغرة لمخاطبة يمين الوسط، وهو ما سيروق للأغلبية، فلتسبق صحيفة الصن المحافظين إليها.

وقد يبدو الأمر لا أخلاقيا لمن يعتقد أن للصحافة رسالة ومسؤولية (والاعتقاد خاطئ تماما) وليست مجرد سلعة استهلاكية، لكن المفارقة أن هذه البراغماتية بحصر الصحافة في نطاق السلع الاستهلاكية، هي ما يضمن استقلاليتها كسلطة رابعة بالفعل تصبح رقيبا على السلطات الثلاث الأخرى، لا لأنها صاحبة رسالة سامية، وإنما لأن آليات السوق الحر والمنافسة على اجتذاب المستهلكين (قراء ومستمعين ومتفرجين) هي الضامن الأساسي لحريتها واستقلاليتها كسلطة رابعة تتجاوز استقلاليتها كل الضوابط الديموقراطية.