تقاعد كفاءة

TT

هناك مهنة، أو حرفة، لعلها معاصرة، تدعى «العلاقات العامة». وكل ما أعرفه عنها أمران: الأول، فقط ما يعنيه أو يمكن أن يعنيه، الاسم. الثاني، أنني لم أخلق لمثل هذا العمل. فلا بد أنه يتطلب الكثير من الصبر، وتحمل جميع أنواع الطباع، وكافة أنواع وفئات وطبقات الذكاء، وسائر درجات الإلحاح واللجوج. وأنا رجل قليل الصبر. وهو قليل قل مع زيادة السنين. في الجامعة الأميركية في بيروت، أهم صرح غربي في الشرق، دائرة للعلاقات العامة كانت لي معها علاقة واحدة: الاتصال بمكتبة الجامعة. والأرجح أن هذا ليس من عملها ولا من اختصاصها لأنه في الإمكان الذهاب إلى المكتبة مباشرة. لكنه كان يحلو لنا، حتى في أمر بسيط كهذا، أن نمر من مكتب الزميل إبراهيم خوري، وفي الدائرة التي رأسها إبراهيم خوري 16 عاماً، كنت أشعر بمدى حجم الجامعة وبمدى أهمية العلاقات العامة. وعندما كُرِّم إبراهيم الأسبوع الماضي لمناسبة تقاعده، شعرت أن علاقتي الوحيدة بهذا الهرم العلمي والاجتماعي، قد ختمت. وسن التقاعد هو الظلم العام، وإنما هو مقدمة للظلم الأعم على إدراج العمر، التي نظنها صعوداً وهي نزول.

لا شك أن «العلاقات العامة» علم وأسس وقواعد. لكنه مثل كل شيء آخر، رجل أيضاً. والأسلوب هو الرجل، قال الفرنسيون. وكان إبراهيم خوري نافذة الخارج على الجامعة ونافذة الجامعة على لبنان والعالم العربي. ويبدو ـ من خلال عمله ـ أن أول شروط المنصب أو أهمها هو أن يكون جميع الآخرين في الضوء وأن تبقى في الظل، لا يدري الناس بأهمية وجودك إلا ساعة التقاعد.

ثمة جيل من الرواد الكبار أدرك أهمية هذه المهنة مبكراً. وكان أقدر هؤلاء المهندس إميل البستاني، الذي أدرك أن الحقائق والمنجزات يجب أن تعرض على الناس. لكنها عمل دقيق أيضاً، فأي مبالغة أو كذب أو مديح للذات، يتحول إلى كارثة على صاحبه. وكان الرائد الآخر الشيخ نجيب علم الدين، رئيس مجلس إدارة طيران الشرق الأوسط، الذي انتدب لعلاقته مع الصحافة كبير مؤرخي لبنان، يوسف إبراهيم يزبك، بكل ما له من احترام ومكانة. تحولت «العلاقات العامة» إلى مهنة مستقلة في لبنان منذ أوائل الستينات. وأصبحت عيناً مختلفاً عن الصحافة أو الإعلان. لكن عدداً كبيراً من المؤسسات لا يزال يفضل البعد عن الأنظار وعن «العين». والقاعدة لم تتغير. فالكثير من «العلاقات العامة» أسوأ من القليل. وأسوأ الأنواع هو مدح النفس الذي اعتبرته العرب مكرهة. واعتبره آخرون مضحكة. ولعله خليطهما.