مثلي الأعلى

TT

هناك والٍ أعتبره سابقا لعصره وزمانه، واسمه «سعيد بن سلم»، وقد ولاه الخليفة هارون الرشيد على عدة ولايات، وإنني شخصيا أعتبره مثلي الأعلى لما يتمتع به من روح منفتحة على مباهج الدنيا.

ولا أستبعد أنه أول من احتفل بعيد ميلاده قبل أن تعرف وتتبع شعوب الغرب هذا التقليد أو الاحتفال، وتقول كتب التاريخ بالنص ما يلي:

إنه كان إذا استقبل السنة التي يستأنف فيها عدد سنيه ـ أي على رأس كل سنة ـ أعتق رقبة وتصدق بعشرة آلاف درهم.. وهكذا يحتفل الرجل بعيد ميلاده احتفالا كريما طابعه الخير والبر، فيتصدق بألف درهم عن كل سنة يعيشها، فضلا عن إعتاق رقبة.

وفي ذلك اليوم المشهود يقيم وليمة كبيرة يدعو لها ما شاء من جلاسه، ويتخلل ذلك الاحتفال الكثير من الغناء والأشعار والألعاب البهلوانية.

ويقال إنه أعتق في حياته ما لا يقل عن 40 رقبة، ومعنى ذلك أنه قد عمر طويلا.

ولا شك أن روح ذلك الوالي خضراء إلى أبعد الحدود، ولا أستبعد كذلك أنه أول من جعل له (سكرتيرة)، نعم، امرأة سكرتيرة، واسمها تحديدا «الست نسيم»، وقد اختارها لفصاحتها وذكائها ولأن خطها يشابه خطه، فكانت تكتب الأجوبة وتدون التوقيعات في مختلف شؤون الولاية، وأصبح لها شأن عظيم إلى درجة أن الناس أصبحوا يتقربون منها ويطلبون وساطتها، بل إن الشعراء قالوا فيها قصائد المديح تزلفا، غير أن نهايتها للأسف لم تكن حسنة، حيث إنها طمعت في المكاسب، وقربت منها رجلا من حاشية الوالي، بعد أن طاحت بغرامه، فألقوا القبض عليها، وعندما تحققوا من أفعالها ظهرت لهم البلاوي، وهكذا تخلصوا من سلطان السكرتيرة (نسيم).

غير أن هذه الهزة أو الكارثة لم تفت في عضد الوالي سعيد، فظل كما هو، مقبلا على الحياة، غير مدبر، وقد اصطفى من جواريه فتاة (رعبوبة)، تقول كتب التاريخ إنها بعثت له يوما بـ(تفاحة) كهدية، ومعها رسالة جاء فيها:

«فكرت في هدية تخف مؤنتها، وتهون كلفتها، ويجل موقعها، فلم أجد إلا أن أهدي إليك تفاحة، هي أحسن الفاكهة، قد اجتمعت فيها ألوان قوس قزح، من الصفرة الدرية، والحمرة الخمرية، والشقرة الذهبية، وبياض الفضة، ولون التبر، يلتذ بها من الحواس: العين ببهجتها، والأنف بريحها، والفم بطعمها. إن حملتها لم تؤذِك، وإن رماك بها أحد لم تؤلمك، فتناولها بيمينك، ولا تبعدها عن عينك، فإذا طال لبثها عندك، ومقامها بين يديك، وخفت أن تزول بهجتها، وتذهب نضرتها، فكلها هنيئا مريئا..».

ومن إعجاب الوالي سعيد بفصاحة تلك الجارية لم يأكل التفاحة، وإنما طلب في استدعائها على وجه السرعة، وعندما حضرت مد لها التفاحة، ثم استلقى على الأريكة وهو يشير لها إلى فمه المفتوح ولسان حاله يقول: «ألقميني يا بعد روحي»، وأخذت تلقمه، ومع كل لقمة يقضمها كانت تلقي على مسمعه بيتا من شعر الغزل الذي يصيب جسده بالقشعريرة.

فهل تلومونني بعد ذلك إذا قلت لكم إنه مثلي الأعلى؟!

فمتى أحظى بمثل تلك التفاحة التي اجتمعت فيها ألوان قوس قزح؟!