جدل النظام الانتخابي

TT

الجدل الدائر في العراق على شكل النظام الانتخابي الذي ستخاض وفقه الانتخابات البرلمانية القادمة مطلع 2010، هو في ظاهره يبدو حيويا ويأتي كرغبة في تطوير العملية الديمقراطية، إلا أنه في جانبه الآخر يمثل تصارع مصالح القوى السياسية، بل ويشكل النظام السياسي والحزبي القائم في العراق، إذ إن هناك علاقة وثيقة بين النظام الانتخابي المتبنى والنظام السياسي القائم، فبينما يعزز نظام الانتخاب بالأكثرية النظام الحزبي الثنائي، فإن النظام الانتخابي النسبي يعزز النظام الحزبي التعددي، وعند المفاضلة يجب أن تؤخذ أيضا التأثيرات على الجوانب الأخرى من النظام السياسي وأعني الاستقرار، ففيما نظام الأكثرية المنتج لنظام الحزبين يعزز الاستقرار في الحكم ويقدمه على العدالة فإن النظام النسبي يعزز العدالة، وإذا كان الميل للعدالة يرجح في المجتمعات لرغبتها في تمثيل نفسها فإن عدم الاستقرار هذا سيتضاعف في الأنظمة الانتقالية تلك التي تقع ما بين الأنظمة الاستبدادية والديمقراطيات الراسخة، إذ إن وسائل القمع في الأنظمة الاستبدادية تمنع احتمالات الاضطراب السياسي في حين أن الديمقراطيات الراسخة تقدر على إدارة التناقض وتقنين الصراع على السلطة والموارد بين الجماعات السياسية، لذا فالمشكلة تظل مصاحبة للديمقراطيات الانتقالية تلك التي غادرت وسائل قمع الأنظمة الشمولية ولم تصل بعد إلى وسائل الإدارة الديمقراطية للصراعات، فتقع أنظمتها في خانة الهشاشة المعرضة لتفجر الاضطرابات، يفاقم ذلك، أي عدم الاستقرار، خصلة أخرى اختصت بها ديمقراطيتنا العربية (العراق، لبنان، فلسطين) أنها باتت ساحات تتسم بضعف المناعة أو انعدامها ضد التوظيف الخارجي، إذ لا يوجد حد أدنى من المشتركات بين قواها السياسية فما يعتبره طرف نفوذا وتدخلا خارجيا يعتبره الآخر دعما مرحبا به، فتعيش أزمة اتفاق على المفاهيم بل حتى على تعريف المصلحة الوطنية، ورابعة بواعث عدم الاستقرار التي تختص بها هذه المرة القوى السياسية العراقية هي قابليتها على الانشطار لا على التوحد فهي معرضة دوما وحبلى بالانشقاقات وهذه عادة لا تكون عند منعطفات فكرية لتفهم، بل صراع على الزعامة وتدافع على القيادة والمراكز وعلى استقطاب الدعم. لذا فالأمل يبدو ضئيلا في أن تجدد الأحزاب السياسية نفسها وأن تمارس تقييما ونقدا لأدائها ناهيك أن تستبدل قياداتها التي تكلست وباتت تنتظم بحزمة مصالح هاجسها ودافعها البقاء، يحمي ذلك غياب البنية الديمقراطية عن ممارساتها الداخلية، ومن هنا يعود لزاما أن يكون هناك نظام انتخابي يقسرها على ذلك ولا يترك لها، إذ المعروف أن اختيار قوانين الانتخاب لم تكن يوما حيادية، فالنواب الذين يقرون هذه القوانين سيسعون بالتأكيد إلى وضع الآلية التي تمكنهم من الاحتفاظ بمقاعدهم، وأحزابهم لا تريد أن ترخي قبضتها عن السلطة، إلا أنه الحمد لله أن في الديمقراطية العراقية وبشكل لافت الآن كوابح وأن آتيا من خارجها هما بمفارقة السيستاني والأميركان، ربما تحتاج لهما لفترة حتى تبلغ نضجها وتقوى كوابحها الذاتية كالمؤسسات والممارسة والوعي لكي تكون هي الكوابح.

إذ لولا الأول، السيستاني، فإن أغلب الكتل تميل لتفضيل نظام القائمة المغلقة، وإن أظهرت غير ما تبطن، لكي لا تبدو غير مائلة للديمقراطية ولحسن التمثيل أو أنه ينتابها شك بشعبيتها وخوف من سقوط رموزها وشخصياتها، فهي بجانب ذلك تفضل النظام المغلق، حيث يضمن سيطرة حديدية على أتباعها ولا يترك للناخب المجال للمفاضلة ويضيق أمامه الخيار فإما التصويت لقائمة لا دور له في اختيار من في داخلها أو العزوف عن المشاركة، وحتى العزوف الاحتجاجي لن يكون ذا تأثير هام على هذه القوى السياسية إذ إن المقاعد ستملأ بأي نسبة مشاركة، لذا فإن غالبيتها تواطأت على القائمة المغلقة والدوائر المتعددة على المحافظات، في حين أن التحالف الكردستاني ومعه الحزب الشيوعي والمكونات الصغيرة فضلت جعل العراق دائرة واحدة بدل المتعددة، لكي تجمع أصواتها ولا تضيع، وعندما أدركت بأن هذا الخيار حظوظه ضعيفة في النجاح فبات الأمران واحدا بعد ذلك سواء قائمة مغلقة أو مفتوحة، إلا أن السيستاني المتعالي عن مصالح الأحزاب قطع هذا الجدل باتفاقه مع رؤية أن القائمة المفتوحة تحقق المشاركة وتستحضر رأي الناخب في ترتيب الأولوية وفي نجاح الفائزين وتنمي المساءلة وتجعل النائب مديونا لمنتخبيه وليس لرئيس قائمته وتحسن من نوعية البرلمانيين.

الكابح الثاني، الأميركان سيقطعون الطريق عن محاولات وأمانٍ مخفية لدى البعض بإطالة عمر البرلمان وتأجيل الانتخابات بذرائع وبوضع عقبات أمام النظام الانتخابي أو بحل الهيئة المشرفة على إجرائها أو باستبدالها ببدائل غير دستورية، إذ الكثير من الكتل ينتابها الفزع بأنها لن تستطيع بأي حال أن تحتفظ بوزنها الحالي، حيث بعضها قد كسر احتكاره وبرزت إلى جانبه معارضة، والبعض الآخر بات ينازعه التمثيل قوى كثيرة متوثبة كانت قد أحجمت عن المشاركة سابقا، وبعض ثالث ستتكرس هزيمته السابقة في مجالس المحافظات، أما البعض الرابع فسيسجل التاريخ أنهم قد مروا يوما في البرلمان إذ هم دخلوا مرحلة الموت السريري ومآلهم الانقراض، فحتى لو عجزت كوابح الديمقراطية العراقية عن منع ذلك، فإن الأميركان سيقطعون الطريق على أي محاولات أو أمانٍ بالتفكير بذلك، لأنه إذا كان هناك من معلم يستحق بعض ما قدم من تضحيات ودماء ودمار فإنه الديمقراطية وتداوليتها.

إلا أننا في النهاية لا بد من عدم التعويل أو الإيهام كثيرا بأن النظام الانتخابي سيكون مفتوحا بل هو سيكون خليطا ما بين مغلق ومفتوح، إذ يتيح للناخب اختيار قائمة أو مرشح، إذ سيبقى في ظل نظام القوائم البعد الفردي محدودا، حيث ستذوب شخصية المرشحين في قوائمهم خصوصا عندما نتحدث عن دوائر بعضها يناهز سكانه دولة صغيرة، وبالتالي لن يعرفوا المرشح كما في النظام الانتخابي الفردي، لكن تظل خطوة متقدمة على الطريق.