حيث يطبع كتاب الحياة

TT

ما يسميه العلماء اللاوعي، هو وعينا الأكبر. هو الدفاتر التي تطبع عليها كتب الحياة. وفي هذا اللاوعي تتكدس التصرفات والانطباعات والتكونات الواعية. ومن بيوتنا وعند أهلنا نجمع تفاصيل صغيرة تتجمع بدورها حتى تصير نهج الحياة. غالبا ما نتحدث مثل آبائنا دون انتباه. وغالبا ما نستخدم تعابيرهم وحركات أيديهم ولا ندرك ذلك إلا وقد أصبح الشبه كاملا.

صحيح أننا نتأثر بمن نعاشر، لكن ذلك يظل عابرا. وحده تأثير البيت يحفر في طباعنا حفرا. ووحدها صورة الأب والأم أو الراعي (خال أو عم أو خالة) تطبعنا مدى العمر. اثنان من أشهر أعلام الأدب العربي المعاصر عزفا عن الزواج بسبب صورة العائلة في البيت: جبران خليل جبران شاهد والده يعذب أمه، ثم رأى أخاه وأخته وأمه يموتون في الفقر والمرض. وقرر أنه لا يريد أن يكرر أيا من هذه المشاهد.

مات جبران عن 42 عاما، أما رفيقه ميخائيل نعيمة فعاش 96 عاما لا تفارقه صورة النزاع في منزله الأبوي: «كان صبورا وكانت لجوجة. وكان مسالما وكانت لا تهاب الخصام. وكان يميل إلى السكوت والتأمل وتميل إلى الجدل والإرشاد والحركة. وكانت عاطفته أعمق من متناول لسانه، وعاطفتها تتفجر من عينها ومن أسارير وجهها ومن لسانها. لكنهما كانا يتممان واحدهما الآخر. فلولا طموح أمي ولجاجتها وحسن تدبيرها لما تعلم أي منا أكثر مما تعلم والدنا. ولولا صبر والدي الطويل ومقدرته العجيبة على العمل المضني وتحمل شظف العيش لما بقيت عائلتنا متماسكة تماسك الذرات في الفولاذ».

برغم ذلك تحاشى نعيمة أن يكرر صورة أمه في حياة زوجية. وبرغم امتنانه لما قدمت للعائلة فمن الواضح أنه متعاطف مع صورة أبيه وطباعه، نافر مما يسميه لجاجة الأم. وقد نشأ توفيق الحكيم في منزل مليء بالتناقض والخناقات والمناخ المزعج، لكنه لم ينفر من المرأة ولا تحاشى الزواج. وقد تحدث في «زهرة العمر» و«سجن العمر» عن وقوعه في الحب ثلاث مرات وهو بعد دون العاشرة من العمر. وكان حبه الثالث للأسطى حميدة، المطربة والعوادة التي «كانت خفيفة الروح لطيفة المعشر تحمل نفسا كريمة وإن كانت ليست حسنة الصورة. كان صوتها يشجيني وحفظت كثيرا من الأغاني التي كانت تغنيها واشتد إعجابي بها إلى حد خُيِّل إلي أنها جميلة وشعرت نحوها بإحساس يكاد يشبه الحب وكانت تشجعني على الغناء معها»! كان ذلك، على الأرجح، قبل أن يقرأ قصيدة ابن الرومي في المغنية وحيد.