حرب روسيا ضد الكلمة

TT

تمر اليوم ثلاثة أعوام على مقتل الصحافية الشجاعة «آنا بولتكوفسكايا» التي كشفت الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان في الشيشان بعد أن تلقت خمس طلقات في أثناء دخولها منزلها في موسكو. لم تكن آنا هي الصحافية الروسية الأولى التي يتم اغتيالها لأنها كشفت الحقائق الخفية. من المحزن حقا وقوع تلك الاغتيالات، ولكنه سوف يكون هناك المزيد. وجميعنا ندفع الثمن.

لقد كان الغربيون يميلون إلى الاعتقاد خلال الحرب الباردة بأن روسيا الديمقراطية سوف تكون أفضل بالنسبة إلى الروس وبالنسبة إلينا كذلك. ولكن بعد نحو عشرين عاما من سقوط الستار الحديدي، ما زالت الآمال في ديمقراطية حقيقية في روسيا لم تتحقق. ويرجع السبب الرئيسي في ذلك إلى ظرف وسائل الإعلام الروسية المحفوف بالمخاطر، ففي الولايات المتحدة، يستطيع صحافي بالتحقيقات إزعاج ذوي النفوذ والحصول على أوسمة في مقابل ذلك، أما في روسيا، فإن مثل ذلك الصحافي يجب أن يتوقع أن يغتال بإطلاق الرصاص. فالديمقراطية الليبرالية تعتمد على الصحافيين الذين يتتبعون أحداث المجتمع ويعلنون عن ما توصلوا إليه. ولا يمكن أن تزدهر تلك الصحافة عندما يحمل الذين يراقبون الصحافة التحقيقية تصريحا غير رسمي بالقتل.

لقد كان هذا العام وحده عاما مفزعا بالنسبة إلى الصحافيين الشجعان الذين استمروا في العمل الذي ضحت لأجله بولتكوفسكايا بحياتها.

ففي يوليو (تموز) الماضي اختُطفت الناشطة الحقوقية ناتاليا أستميروفا من أمام منزلها في غروزني بالشيشان، ثم عثر على جثتها التي أطلق عليها الرصاص بعد ساعات في أنغوشيتيا، وهي إحدى مناطق الصراع الأخرى بروسيا. وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تلقت أستميروفا أولى جوائز أنيا بولتكوفسكايا من جماعة حقوق الإنسان «الوصول للنساء كافة في الحرب».

وفي يناير (كانون الثاني)، أطلق الرصاص على ستانيسلاف ماركيلوف المحامي الناشط بحقوق الإنسان ورئيس معهد القانون الروسي في موسكو في أثناء مغادرته لمؤتمر صحافي كان قد عقده احتجاجا على إطلاق سراح أحد المسؤولين الروس المتهم بالعنف والوحشية خلال حرب الشيشان. وكان ماركيلوف الصديق المقرب لاستيمروفا معروفا بتمثيله لضحايا التعذيب وللصحافيين من أمثال بولتكوفسكايا. كما أُطلق الرصاص على أناستاشيا بابوروفا طالبة الصحافة بالصحيفة المستقلة نوفايا غازيتا (التي وظفت بولتكوفسكايا) والتي وافتها المنية بعد ذلك بعدة ساعات.

وليس الذين يغطون أحداث الشيشان هم فقط الذين يتعرضون للخطر، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تعرض ميخائيل بكيتوف رئيس تحرير جريدة «خيمكي» (شمال غربي موسكو) ـ الذي كان يكتب موضوعات حول الفساد الحكومي المحلي ـ للضرب حتى الموت ثم تُرك في البرد القارس، مما تسبب في أن يفقد إحدى رجليه وبعض أصابعه من أثر عضة البرد. وفي فبراير (شباط)، عُثر على رئيس تحرير إحدى الصحف الأسبوعية في سولنتشنوغورسك (في أقصى الشمال الغربي لموسكو) فاقدا للوعي وينزف، حيث كان ينشر موضوعات تنتقد السياسيين المحليين.

وبالحديث عن آنا بولتكوفسكايا في ديسمبر (كانون الأول) 2006، قالت أستميروفا: «من الواضح لي أن هؤلاء الذين قتلوا كانوا يحاولون إسكاتها، ولكن ذلك لم يحدث. فالآن وفي نفس المكان الذي كانت تنشر فيه (نوفايا غازيتا) مقالاتها، ما زالت هناك وسوف تظل هناك معلومات من منظمة (ميموريال)» مؤسسة حقوق الإنسان الروسية المعترف بها دوليا. ولكن ومنذ مقتل أستميروفا، أغلقت منظمة ميموريال مكاتبها في غروزني، كما هجر العديد من الذين كانوا يعملون على رصد انتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة.

والعديد من الأسباب يدفعنا لأن نعتقد أن جرائم القتل التي تعرض لها هؤلاء الصحافيون هي جرائم اغتيال، أي أنها جرائم قتل لها دوافع سياسية يقوم بها أو يتستر عليها أعضاء في وكالة الاستخبارات الروسية وتغض الحكومة، التي يفترض أن تكون مهمتها الأولى هي حماية حياة المواطنين وحرياتهم، الطرْف عنها. وللأسف، يبدو أن ما قالته أستميروفا حول مقتل بولتكوفسكايا صحيح وينطبق على تلك الجرائم كافة: «فحتى إذا اكتشفنا من الذي جذب الزناد، فسوف يظل الشخص الذي أصدر الأمر مجهولا».

لم تعد روسيا بحاجة إلى معسكرات الغولاغ لإسكات المعارضة، حيث كان معتادا أن يتعرض للعقاب من يلفت الانتباه إلى خطايا المقدسين من خلال محاكمة استعراضية ثم النفي الذي يتم في الأغلب إلى أحد معسكرات العمل. ولكن الصحافيين يتلقون الآن تهديدات بالعنف غامضة ولكنها ذات مصداقية، سواء بالنسبة إليهم أو إلى عائلاتهم سواء ضربا على أعتاب المنزل أو في بعض الأحيان الاغتيال في وضح النهار.

وليس الصحافيون الضحايا الوحيدين لسياسة الرعب تلك، حيث تدّعي روسيا أنها عضو في المجتمع الدولي للأمم الديمقراطية. ولكن الديمقراطية تصبح بلا فائدة عندما يُحرَم المواطنون من المعلومات الأساسية التي يستطيعون من خلالها الحكم على سلوكيات قادتهم. فعلى سبيل المثال، يخبروننا دائما بأن سياسات الحكومة الروسية في الشيشان تحظى بالشعبية بالداخل. ولكن هل نستطيع إذن أن نحمّل المواطنين الروس المسؤولية عن ما تفعله دولتهم إذا لم يكونوا على دراية فعلية بما يجري؟

فليست الخيارات الديمقراطية التي تتم من خلال السلبية مجانية بل إن لها نتائج حتمية، فحرية الصحافيين في كتابة التقارير حول الحياة في مجتمعاتهم هي أمر ضروري، لأنه دون ذلك يفقد المواطنون حريتهم كذلك.

لقد كان الأميركيون على صواب في أن يتمنوا أن يعود سقوط النظام السوفياتي بالفائدة علينا وعلى الشعب الروسي كذلك، ولكن الديمقراطية تبدأ فقط عند صناديق الاقتراع، ولكن الخطاب المستقل هو أمر حيوي. ويجب علينا أن نقوم بكل ما نستطيع القيام به لمساندة الصحافيين في هذا العمل المهم بما في ذلك الضغط على الحكومة الروسية لحماية الصحافيين وحريتهم في التعبير.

فاغتيال الصحافيين يؤثر لا على الصحافيين فقط، بل ويمكنه إعاقة الديمقراطية في روسيا، وهو ما لن يمثل مشكلة بالنسبة إلى روسيا وحدها.

* بروفسور في الفلسفة بجامعة برينستون، ورئيس مجلس أمناء مركز «بي إي إن» الأميركي وهو فرع لأقدم منظمة دولية للتعليم

وحقوق الإنسان

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»