بين الحب والإيمان

TT

كنيسة اثلبرغر من الكنائس الصغيرة التي حشرت نفسها بين البنوك والشركات الكبرى ودروب العاهرات والغانيات، في حي الأعمال المعروف في لندن بالستي. نسفها الإرهابيون الأرلنديون وأعيد بناؤها كمركز للتبشير باللاعنف والسلام وحوار الأديان. تقدم ندوات ودورات عن الإيمان والأديان المختلفة. تشمل برامجها حفلات موسيقية فولكلورية ودينية لمختلف الشعوب وجلسات حكواتية عالمية. وهو سر ترددي عليها. فهي تعتبر الموسيقى والغناء وسيلة للحوار بين الأمم.

ضمت الكنيسة خيمة مؤثثة في الحديقة خصصت للتأمل الروحي. توجد فيها الكتب المقدسة لشتى الأديان، هناك أيضا كاسيتات لسماع التراتيل الدينية لمختلف الطوائف. للكنيسة أيضا ساعة دقاقة تضرب بناقوسها إشارة الساعات. كثيرا ما ضايقتني بمقاطعتها للمتكلمين والمنشدين والعازفين. شكوت منها للإدارة، ولكنهم أفهموني بأن في دقاتها حكمة. إنها تذكر السامع بمرور الزمن. يا ابن آدم، مهما تفعل فأيامك معدودة والساعة تجري والعمر يخلص.

قصدتها يوما لسماع فرقة تركية تقدم مدائح دينية إسلامية. ولكنني وصلت قبل الموعد بكثير. فتوجهت إلى الخيمة وجلست ورحت أستمع لتلاوة من القرآن الكريم. وانطلقت في تسبيحة روحية، أفكر وأتأمل. بعد دقائق قليلة دخل شاب وشابة وجلسا في الزاوية المقابلة. ما لبثا حتى دخلا في نزوة غرامية. راحا يتحاضنان ويتعانقان. رأيت في ذلك خروجا سافرا عن الأدب والتقوى. فهذا مكان مخصص للعبادة والتلاوة والتأمل الروحي، وليس عشا للغرام. هممت بمكالمتهما وزجرهما. ولكنني عدت لمساءلة نفسي. تذكرت أن دينهما المسيحي يقول لهما إن الله هو المحبة. وهم يعتبرون الحب جزءا من الإيمان. هذا ما يقولونه مرارا. أنا أتعبد بطريقتي وهذان الشابان ربما يتعبدان بطريقتهما، ربما كانا يطبقان ما يقوله الكاهن عندهم في صلواتهم. اللهم أعطني القدرة لأن أحب ولا تجعلني في حاجة لأن أستحب.

من يدري؟ هذه مدينة لندن وليس مدينة البصرة ليتحير المحبون أين يتسترون ويلتقون. يستطيع الشاب الإنكليزي أن يقبل حبيبته ويحتضنها في الشارع، في أي مكان يشاء. لماذا اختار هذا العاشق هذه الخيمة الدينية بالذات ليتبادل الحب مع حبيبته؟ أم ترى أن الجو الروحي للمكان أثار فيهما هذا التألق العاطفي والرغبة الجامحة للتعبير عن الحب ببراءة وروحية؟ سمعت الكثير عمن قالوا بأن الإيمان كثيرا ما يلتقي بالشوق والذوبان. حب الخالق في حب المخلوق. وحب المخلوق في حب الخالق.

ولكن لم يقدر لي، أن أكون أنا متفرجا على هذه المعادلة وأنشغل في حلها؟ أفلا يحق لي أن أطلب من هذين الشابين أن يفتشا عن مكان آخر للحب ولا يكدرا مزاج المحرومين من الحب؟ وفيما كنت أفكر بالجواب، متحيرا، سمعت الساعة تدق لتذكرنا، آه يا ابن آدم! تذكر الزمن، وقد آن الوقت لسماع المنشدين الصوفيين يغنون عن الحب، حب الله، وحب الإنسان. فخرجت وتبعني العاشقان.