رحلة بايدن إلى أفغانستان

TT

بعد أربعة أشهر من اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وهروب فلول طالبان أمام الغزو الأميركي كان السيناتور جو بايدن (آنذاك) أول مسؤول أميركي منتخب تطأ قدمه أرض أفغانستان، عندما كان يشغل حينئذ منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية، وكان أول لقاء له، حتى قبل انتخاب الرئيس حامد كرزاي، مع وزير التعليم الأفغاني.

سأل بايدن الوزير عن الكيفية التي يمكن بها للولايات المتحدة تقديم العون، وهو على يقين من أن بين المطالب تمويل إعادة بناء المدارس التي دمرتها الحرب وأموالا من أجل تجهيزها بطاولات الدراسة وحتى الأقلام. وأدهش الوزير بايدن عندما قال له إنه يطلب ثلاثة أمور: الأمن ثم الأمن ثم الأمن. وقال إن من دونها لن يسمح الآباء لأبنائهم بالخروج إلى المدارس ولن يشعر الطلاب الكبار والمدرسون بالأمن لكي يسافروا إلى الجامعة.

جاءت تلك الرسالة من مصدر غير متوقع وقدمها بقوة. ومن ثم شغلت ضرورة المطلب الأمني تفكير بايدن، فإضافة إلى كونه أحد منتقدي الرئيس بوش الذي أصر على تحويل تركيزنا بعيدا عن أفغانستان إلى العراق ومنَح «القاعدة» وأسامة بن لادن الفرصة كي يتمكنوا من الهرب وأعطى طالبان الوقت الذي تحتاجه كي تتمكن من إعادة بناء قوتها. وما لم يتحسن الوضع الأمني، بحسب قولهم، لأدى الفراغ الذي نتج في النهاية إلى تشكيل ملاذ إرهابي آمن مكن أن يهدد الأمن القومي الأميركي مرة أخرى.

وعاما إثر عام فعل بايدن ما بوسعه لدعم كرزاي لمساعدته في بسط سلطته عبر أفغانستان حتى يكون أكثر من رئيس لكابل. ودخل بايدن في مواجهة مباشرة مع مسؤولي إدارة بوش الذين سعوا إلى تقليص سلطات كرزاي ودفعوا باتجاه نظام لامركزي مارس فيه القادة القبليون والإقليميون ذوو التحالفات المثيرة للشكوك والممارسات الفاسدة السلطة على مناطق واسعة من أفغانستان.

وعندما التقوا في يناير (كانون الثاني) 2002 استضاف كرزاي بايدن على مدار يومين في القصر الرئاسي الذي دمرته سنوات الحكم القاسي لطالبان. ولم يفلح السجاد الأفغاني الفاخر في أن يغطي أبهته التي خفتت ومقاعد مراحيضه المكسورة. وعكست مآدب الطعام الضئيلة الظروف الصعبة التي عاشتها تلك الأمة التي عانت على مدى زمني طويل. ومثل كل نظرائه في الغرب رأى بايدن في كرزاي الشخصية الأنسب للمهمة، فهو الوحيد الذي يقف دون عداوات وذو لمسة رقيقة ساعية إلى الوحدة. فهو بشتوني يرتبط بعلاقات وثيقة مع الطاجيك والاوزبك والتركمان والمجموعات العرقية الأخرى، كما أنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة. وبعباءته المنسدلة وقبعته يجسد كرزاي السر وراء اعتبار أفغانستان «حربا صائبة»، وبدأت منذ ذلك الحين علاقة صداقة بايدن ـ كرزاي. وعندما وصل كرزاي بعد ذلك بأسابيع قليلة منتصرا إلى واشنطن تهافت المشرعون إلى القرب منه وقام حينها بايدن بدور الدليل له في الكونغرس.

والآن وقد صار بايدن نائب الرئيس والصوت الأقوى داخل إدارة أوباما بات أقل وجودا في أفغانستان. ولم يعد بايدن يدافع بشراسة عن التعهد الأميركي الكبير ببناء المدارس والطرق وحمل الفلاحين على التخلي عن زراعة الأفيون وتوفير فرص العمل. وبات دعمه لكرزاي قصة من الماضي، ففضائل الماضي باتت آثام اليوم، إذ تحول كرزاي الذي حظي بموافقة الجميع في السابق تحول الآن إلى قائد ضعيف غير قادر على تأليف الدولة، فهو بشتوني الإرث لكنه بالكاد زعيم قبلي قادر على التأثير في أنصاره. وهو سياسي معسول الكلام يتعاون مع أخ يدير نصيبا من تجارة الأفيون المزدهرة في البلاد، وكذلك مرتش ومزور انتخابات متعطش للسلطة يعيق جهود الولايات المتحدة والـ«ناتو» في تحقيق الديمقراطية في البلاد.

ونظرا لصعوبة الحصول على شريك أفغاني جدير بالثقة وأهل من أجل تنفيذ استراتيجية مكافحة تمرد ناجحة، يسهل علينا أن ندرك السر وراء فشل كرزاي في الاختبار وفقدانه كل الدعم من بايدن وازدياد عدد المتشككين.

كيف يمكن للولايات المتحدة الاستمرار في استثمار كميات ضخمة من الأرواح والمال، حيث لا يوجد شريك ولا يوجد لدينا ثقة في قدرة كرزاي على بناء قوة عسكرية أو حتى قوة شرطة فاعلة؟ من الصعب المراوغة مع المنطق بأن من الأفضل تركيز جهود الولايات المتحدة على الهدف المحدد وهو قتل عدد كاف من قادة «القاعدة» وطالبان في المناطق القبلية الحدودية الباكستانية ـ الأفغانية حتى تضعف قدرتهم على التأثير في مجريات الأمور في كلتا الدولتين.

وقد عمل بايدن والآخرون على إنجاح كرزاي لمدة ثماني سنوات ولم يجنوا سوى القليل من استثمارهم هذا. لكن من العدل أيضا أن نتساءل عما إذا كان بناء قرارات الأمن القومي على أخطاء وفشل حامد كرزاي ونظامه يبرر ترك أفغانستان دون القيام بالشيء الوحيد الذي طلب من الولايات المتحدة القيام به منذ مدة طويلة، وهو المساعدة في إرساء الأمن.

وفي النهاية، لقد كان بايدن ومنتقدو بوش هم من قالوا لدى عودتهم من كابل بأن أولى المهام التي ينبغي على الولايات المتحدة الاضطلاع بها توفير القوات الأميركية بعدد يكفي لتوفير أمن حقيقي حتى لا يتحول الأفغان الذين أفاقوا من كابوس طويل إلى مصدر لكابوس أميركي. إذا كان بناء أمة عملا يستحق الجهد فهذا هو ما يجب القيام به. ولن نعرف أبدا كيف كان بالإمكان للأفغان أن يتطوروا إذا ما تخلينا عن جهودنا الكاملة تجاه «الحرب الصائبة». لكن بالنظر إلى الماضي، هل من الممكن أن نكون قد وضعنا العربة أمام الحصان في البحث عن زعيم أفغاني قوي يمكننا مشاركته قبل إلزام أنفسنا بجهد شاق في إرساء الأمن؟

أليست القيادة في كل مكان تتطلب الأمن كشرط مسبق لتأسيس السلطة؟ ألم يضع وزير التعليم المسألة صراحة؟

*مدير شؤون العلاقات للسيناتور جو بايدن والمتحدث باسم الحزب الديمقراطي في لجنة العلاقات الخارجية في الفترة من عام 2000 وحتى 2006 .

*خدمة «واشنطن بوست»

خاص بـ«الشرق الأوسط»