أين دور العرب في بناء القوة الإقليمية الثلاثية؟

TT

تشكل زيارة رجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا إلى إيران، علامة فارقة في الوضع السياسي الإقليمي لمنطقتنا، هذه المنطقة التي تتشكل من ثلاثة أقطاب أساسيين: العرب وتركيا وإيران. وبينما يحضر القطبان التركي والإيراني في الزيارة وفي المحادثات، فإن الجانب العربي وبطريقة سلبية للغاية.

إن طموح مثل هذه الزيارة، مع ما رافقها من تطورات، طموح كبير، يسعى إلى بناء قوة إقليمية، تقف في وجه سياسات الغرب من دون أن تعاديه بالضرورة. ولكن بناء هذه القوة الإقليمية لا يمكن أن يكتمل، وأن يصبح أمرا فعالا، إلا بانضمام الطرف الثالث، الطرف العربي، إلى هذه المعادلة الإقليمية التي لم تكتمل بعد. لا يمكن طبعا الاستخفاف بتلاقي القوتين الإيرانية والتركية، في إطار سياسة تعاون وتفاهم حتى الآن، ولا يمكن الاستخفاف بإمكانية تطوير هذا التعاون إلى ما هو أعمق وأبعد بينهما، ولكن هذا كله يبقى ناقصا في ظل غياب الطرف العربي عن هذا التحالف، وبوجود العرب ضمنه وداخله يمكن تطويره وتعميقه وتحويله فعليا إلى نواة إقليمية.

تقتضي الموضوعية أن نذكر أن سوريا، وعبر قيادة الرئيس الراحل حافظ الأسد، كانت أول من بادر إلى فتح الباب أمام تركيا لتتواجد في المنطقة العربية. والقرار الذي اتخذه الرئيس حافظ الأسد قبل سنوات، حين أبلغ القائد الكردي ـ التركي أوجلان، أن ظروف سوريا ومصلحتها تقتضي تجنب الصدام مع تركيا، كان القرار الاستراتيجي الحاسم بهذا الاتجاه. كان القرار السوري صعبا، ولكن تم اتخاذه برؤية استراتيجية نافذة، جنبت سوريا حربا مع تركيا لا مصلحة لها فيها. وكشفت تركيا آنذاك عن قدرتها على فهم الموقف السوري بأبعاده العميقة، وتجنبت أن تقع في غباء النشوة العسكرية، فترى في القرار السوري رضوخا للتهديد العسكري التركي. وهكذا، بدأت مع سعي الطرفين السوري والتركي إلى فهم بعضهما بعمق، ملامح سياسة إقليمية جديدة في المنطقة، نتجت عنها أمور كثيرة.

على الصعيد السوري، واصل الرئيس بشار الأسد سياسة والده، من خلال العمل على بناء التقارب مع تركيا، وكان أن تطورت العلاقات بينهما اقتصاديا، وشعبيا أيضا. وتم فتح الحدود بين البلدين، وتم إلغاء التنقل بالتأشيرات، وسط جو شعبي احتفالي ساهم فيه الشعبان. ثم كانت الخطوة السورية الثانية، حين أبلغت تركيا أنها ترحب بوساطة غير مباشرة منها، بين سوريا وإسرائيل. وفتح هذا نافذة سياسية أمام تركيا لم تكن مفتوحة من قبل.

أما على الصعيد التركي، وقد أدركت برؤيا استراتيجية مستقبلية، أهمية إقدام سوريا على فتح النافذة السورية أمامها، فقد بادرت إلى سلسلة خطوات نقلت موقعها السياسي مع إسرائيل من موقع إلى موقع، دون أن يعني ذلك عداء تركيا لإسرائيل، وإن كانت إسرائيل قد نظرت إليه على أساس ذلك، فقامت تركيا بانتقاد العدوان الإسرائيلي على غزة بقوة، وكان أن ألغت مشاركة إسرائيل في مناورات مشتركة معها، وكان أن انتقدت بشدة موقف إسرائيل في القدس، وحملات الحصار على المسجد الأقصى، وكل هذا لم يكن واردا من قبل في قاموس العلاقات التركية ـ الإسرائيلية.

نتج كل هذا عن موقف سوري باتجاه تركيا، ونتج عن تفهم تركي لموقف سوريا، فالتقطت الخيط الاستراتيجي وبدأت تتابعه بسياسة خارجية واقعية وطموحة ومدروسة.

وكان من بنود هذه السياسة، ما شهدناه في الأسبوع الماضي من زيارة تركية لإيران، تولدت عنها مواقف سياسية ذات مغزى عميق، فأعلنت تركيا حق إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية، وأدانت أي عمل عسكري غربي ضد إيران معتبرة ذلك «ضربا من الجنون». وتصدت لحماقات إسرائيل العدوانية فقامت بإغلاق الأجواء التركية أمام المقاتلات الإسرائيلية. وكان رد إيران على هذه المواقف قولها: إن تركيا وإيران تستطيعان صوغ نظام إقليمي جديد. وقولها: إن التعاون بينهما يقلل من حجم الفراغ في المنطقة.

ومرة أخرى نشير إلى ضرورة عدم التقليل من أهمية التقارب التركي ـ الإيراني. ولكننا نشدد هنا على أن هذا الطموح لبناء قوة إقليمية، لا يمكن أن يصبح واقعا حقيقيا وفعالا، من دون أن يكتمل بتواجد الإقليم الثالث، أي الإقليم الثالث، بداخله. حينذاك يمكن أن تنشأ ملامح قوة إقليمية فعالة، قوة ليست معادية لأحد، ولكنها قوة مسموعة الكلمة لدى القوى الأجنبية الخارجية التي تتعامل مع المنطقة (الشرق الأوسط)، أي المنطقة العربية وتركيا وإيران، مع امتداد هذه المنطقة إلى باكستان وأفغانستان.

الإقليم العربي الثالث لا يزال غائبا. غائبا على مستويين. مستوى تكون القوة العربية الموحدة في السياسة والرؤى، ومستوى انضمام هذه القوة إلى تركيا وإيران.

ونستطيع أن نقول، بعيدا عن النرجسية وبعيدا عن الشوفينية، إن القطب العربي الثالث هو الذي يستطيع أن يعطي للتعاون بين هذه القوى الثلاث، الوزن الإقليمي الحقيقي الذي تتطلع إليه. فالمنطقة العربية سكانيا هي القوة البشرية الأكبر. والمنطقة العربية جغرافيا هي صاحبة المكانة الاستراتيجية في العلاقة مع الغرب. والمنطقة العربية اقتصاديا هي صاحبة المكانة الاقتصادية عبر النفط، وعبر الأسواق، وعبر الاستثمارات، مع ما يعنيه ذلك من تأثير على الغرب ومواقفه.

وهذا يعني، أنه إذا أرادت تركيا، وإذا أرادت إيران، بناء قوة إقليمية، تلغي علاقات التابع مع الغرب، وتبني علاقات التكافؤ مع الغرب، فإن المدخل الأساسي لذلك هو انضمام العرب إلى هذا التحالف. ولكن الوصول إلى هذا التحالف يقتضي جملة من المواقف الإيرانية تجاه المنطقة العربية، شبيهة بالمواقف التركية، إنما في إطار معالجة المخاوف العربية من السياسة الإيرانية، والمثال الأبرز على ذلك سياسات إيران في العراق. عندها يمكن لكثير من المواقف العربية الحذرة تجاه إيران أن تتبدل، ويمكن لنظرات الثقة أن تولد.

ويمكن أن نقول أخيرا، إن العرب بوضعهم الراهن، مشتتون ومنقسمون، ولا يستطيعون أن يشكلوا الطرف الثالث المكافئ في التحالف المنشود. يتطلب الأمر نوعا من الجبهة العربية المتضامنة، توحد نظراتها السياسية، وتستطيع أن تلعب دور الجامع للدول العربية الأخرى.

وهنا لا بد أن نشير إلى دور السعودية التي أطلقت على لسان الملك عبد الله في قمة قطر، شعار التعالي على الخلافات والخصومات، وصولا إلى التضامن المنشود. ولا بد أن نشير ثانية إلى دور سوريا، التي عملت بوعي من أجل تحسين علاقاتها مع السعودية. ولا بد أن نشير ثالثا إلى اللقاء السعودي ـ السوري الأخير في دمشق، وهو لقاء له ما بعده. فاللقاء السوري ـ السعودي يشكل لبنة من أجل مواصلة بناء القوة السياسية العربية اللازمة لبناء القوة الإقليمية الثلاثية. ولكن هذا اللقاء السعودي ـ السوري يحتاج إلى إشارات مصرية لم ترد حتى الآن، والكل ينتظر أن ترد على المنطقة، مثلما يرد البرق مبشرا بالمطر.