العقد الأول يكشف هويته

TT

كان القرن العشرون، الأكثر وحشية وضراوة، منذ أن ارتكب قابيل الجريمة الأولى. حربان كونيتان وإبادات كبرى وغياب أوطان قائمة، أشهرها فلسطين، وحروب أهلية مقيتة من مدافع لبنان إلى سواطير رواندا، وتهجير إرغامي من إسبانيا إلى البوسنة، وديكتاتوريات ماحقة من هتلر إلى سوموزا، وفقر ومجاعات وجفاف وكوارث بيئية وجرائم جماعية في حق البيئة، وجنون إجرامي فردي أو جماعي، وحروب سخيفة وقاتلة كما في الفيتنام وكامبوديا وأفغانستان والعراق. وسوء عظيم عميم لم يوفر أربع جهات الأرض.

لكن العقد الأول من هذا القرن يبدو وكأنه مقدمة لعالم أكثر وحشية. لا يموت الناس في حروب كبرى وإنما يهلكون في فظاعات صغيرة مكررة، متنقلة، يرتكبها إنسان بلا قلب ولا ضمير ولا خلق في حق إنسان يعامل كالهوام والذباب لا يشفع له بكاء ولا أنين ولا ألم. كتبت فيرجينيا وولف أنه «حوالي العام 1910 تغيرت طباع العالم»، معلنة أن الشر في الأرض بدأ يتعاظم وأن عددا أكبر من الشياطين أخذ يعتلي المسرح. ولعلنا على نهايات العقد الأول نشعر أن طباع العالم أخذت تزداد سوءا وفظاظة. وإلا كيف تصف قتل 147 بشريا في بغداد في يوم واحد؟ كيف تصف متفجرات باكستان في حق الباكستانيين؟ كيف تصف هذا العنف الذي يسود الخطاب السياسي في كل مكان؟

لقد طبعت الجريمة الكبرى والصغرى القرن الماضي، لكن طبعه أيضا موج البر ورجال الخير والسكينة والنفس الرفيعة. نلسون مانديلا وكونراد اديناور وفيلي برانت وبرتراند راسل وميخائيل غورباتشوف ودنغ كسياو بنغ ونهرو وغاندي ولي كوان يو ومهاتير محمد وأحمد امبو وأحمد بن بللا وعبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ومحمد الخامس والحبيب بورقيبة وجون كينيدي وشارل ديغول وونستون تشرشل ومارتن لوثر كينغ. قرن عرف أيضا أنديرا غاندي ومارغريت تاتشر. وعرف مدام كوري. وغنت فيه أم كلثوم وأطربت فيروز. وتغير فيه لون اللوحات الفنية. وأقدم كريستيان برنارد على زرع أول قلب. وقطع فيه الطب ألف عام. وسقط الاتحاد السوفياتي دون نقطة دم. وبيعت حجارة جدار برلين كتذكار للحرية وسقوط السجن الكبير. وقطع العلم ألف عام. وزرع الطب وجها لامرأة. وزرع طبيب لبناني في لندن يدا لرجل فقد يده.

مثل القرن الماضي يبدأ عنيفا ومتناقضا. من جنوب أفريقيا بلاد نلسون مانديلا وستيفن بيكون أطل في الهزيع الأخير من العقد، جنوبي أفريقي أبيض، يدعى المستر غولدستون، حاملا ملف غزة وأطفالها ونسائها. هؤلاء رجال نادرون في استقلالهم مثل المفتشين الذين لم يعثروا لجورج بوش على أسلحة نووية في العراق. مثل مواكب أطباء بلا حدود. مثل المتطوعين الدوليين الذين نسفهم الأفغانيون دون أن يعرفوا ما هي مهمتهم.