قمة الثقافة العربية

TT

في رأي الأمير خالد الفيصل، رئيس مؤسسة الفكر العربي، ومن أنابه من المثقفين العرب الذي اجتمعوا في مؤتمر المؤسسة الأخير في بيروت، فإن هناك حاجة ماسة لقمة عربية ثقافية على غرار القمة الاقتصادية، لأن: «الأزمة الثقافية ليست أقل خطورة على المجتمع العربي وإن اختلفت مظاهرها وتباينت آثارها وانعكاساتها»، حسب خطاب الأمير خالد لأمين الجامعة العربية عمرو موسى بهذا الخصوص.

ربما تبدو هذه الدعوة، التي لا أختلف في أهميتها، مفرطة في تفاؤلها بوجود رغبة حقيقية لدى الدول العربية في ترقية المجال الثقافي وتطوير الثقافة العربية وبحث مشكلاتها، كما أنها تفترض أن الدول العربية تولي المسألة الثقافية كل هذه الأهمية للدرجة التي تستدعي تخصيص مؤتمر قمة لها.

كما سلف، من حيث الإطار العام، لا خلاف في أهمية الشأن الثقافي، وفي رداءة الحال العربية فيما يتصل بهموم وشجون الثقافة، بعيدا عن الجدل العريض والنقاش المستفيض حول معضلة المصطلحات والأطر الحاصرة لمعنى الثقافة والمثقف، والنقاش، بل العراك، حول طبيعة دور المثقف العربي في الشأن العام، وطبيعة علاقته بالسلطة، وأبعد من ذلك حقيقة دوره هو، كمثقف صانع أو مروج للمقولات والمفاهيم السياسية، دوره في إيصال الشعوب العربية إلى ما وصلت إليه من مشكلات وانحدار، لأن العناوين الأساسية للثقافة العربية في المرحلة الماضية وربما الحالية وهي: القومية العربية، واليسار، والمثقفون الإسلاميون، كانت هي السند الفكري والدعائي الذي أوصل الضباط القوميين، أو اليساريين أو الإسلاميين (ليبيا والسودان واليمن الجنوبي مثالا) إلى الحكم وتعطيل التنمية الحقيقية، للدرجة التي تجعل المثقفين العرب يجتمعون الآن في بيروت ليطالبوا القادة بتخصيص قمة تبحث مشكلة الثقافة العربية؟

هؤلاء المثقفون هم من صنع المشكلة وهم من يجتمع ليشتكي منها!

ميشيل عفلق وزكي الارسوزي وأكرم الحوراني وحسنين هيكل وساطع الحصري.. وغيرهم هم من نخب الثقافة العربية التي كونت الوعي السياسي السالف، هذا الوعي الذي قامت عليه نظم حكم عربية، وهنا يصبح السؤال: هل المثقف العربي هو الحل أم هو المشكلة؟

لكن لندع هذا الحديث السجالي المتفجر بطبيعته، ونتفق من حيث العموم على جدارة وأهمية هذه الدعوة، ولنعتبر أن المقصود من الدعوة هو وضع: «التنمية الثقافية في مدارها الصحيح» و«التصدي لحالة النكوص الثقافي»، حسب خطاب الأمير خالد للسيد عمرو موسى.

لأنه لا يجادل محب وحريص على أن إنعاش التنمية الثقافية مطلب حيوي، فمعدلات القراءة في العالم العربي متدنية جدا، وحركة الترجمة واهية البنيان، وإنتاج الكتب في العالم العربي يبعث على الرثاء، وحركة الفنون بشكل عام أبطأ من حركة السلحفاة، في وسط مجتمعات معادية للفنون أو محقرة لها، رغم استهلاكها المسرف للنسخ الرديئة من المسرح التجاري أو الأغاني الغرائزية.. وهذا مفارقة ليس هذا مكان نقاشها.

إذن، لا جدال على ضعف الحال الثقافي، وما إنشاء مؤسسة الفكر العربي نفسها إلا من جراء الشعور بفداحة المشكلة الثقافية وغلبة التسطيح الفكري والثقافي لدى العموم العربي.

غير أنه لابد من الإشارة هنا إلى إشكالات حول هذه الدعوة ـ المهمة الطيبة ـ، من هذه الإشكالات:

هل هناك اتفاق بين من نسميهم المثقفين العرب على تشخيص وتوصيف المشكلة الثقافية العربية؟ هل هم متفقون بالأساس على وجود مشكلة وأزمة تستدعي التدخل الجراحي والطارئ؟

إذا كانوا متفقين على وجود أصل الأزمة فهل هم متفقون على التوصيف؟ يعني هل المشكلة هي في ضعف الاتصال بالعالم عبر حركة الترجمة واستدخال المفاهيم المدنية إلى نسيج الخطاب الثقافي العربي العام، أو تشجيع الفنون وتجذير قيمتها الجمالية في الوعي العام؟

هل هذا هو القدر المتفق عليه من توصيف أزمة الثقافة العربية، أم أن هناك قسما كبيرا، بل هو الأكبر والأغلب، من المثقفين العرب يعتقد أنه ليست هذه هي أزمة الثقافة ولا هو سبيل النهوض بها، فسبيل النهوض بها هو تثوير هذه الثقافة باتجاه النضال القومي أو الإسلامي وتحويلها إلى ثقافة مقاومة عوض أن تكون ثقافة استخذائية استهلاكية؟ حسبما نسمع ونشاهد ونقرأ من مثقفين عرب ينعون الثقافة العربية، بشكل شبه يومي، لكن ليس من أجل أنها ليست متصلة بالعالم ومهتمة بمشكلات مجتمعها، بل لأنها خانعة غير ثورية ولا نضالية؟

هكذا، نرى أن هناك تباينا حقيقيا حول وظيفة الثقافة وطبيعة مشكلتها، لدى المثقفين العرب أنفسهم، وهذا أمر يجب ألا يكون مستغربا، فالمثقفون العرب في نهاية الأمر هم جزء من تنوع وانقسام التيارات السياسية والثقافية القائمة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فكل تيار لديه جانبه من الثقافة ونجومه من المثقفين، سواء لدى الإسلاميين أو القوميين أو اليسار أو الليبراليين، ولنذكر كيف أن رجلين من ألمع المثقفين العرب هما ابنا أب وأم واحدة ومع ذلك فأحدهما ليبرالي مضاد لليسار الثوري والآخر عكسه، أعني ابنيْ العلم المصري المعروف أحمد أمين، حسين وجلال، هذا في بيت واحد!

الانقسام عميق ومتجذر بين التيارات العربية، هذا الانقسام، يبدو غير ظاهر لدى النخبة العربية العتيقة، التي ما زالت صاحبة الصوت العالي، حول مسائل مجابهة الغرب والسلطات العربية، فهذه النخبة يغلب عليها القوميون واليساريون ومعهم مثقفو الإخوان المسلمين ومن يدور في فلكهم من أبناء «الحالة» الإسلامية، حسبما يفضل هذا الوصف أحد أبناء هذه الحالة، فهمي هويدي، ولكن تحت رماد شيوخ الثقافة وميض نار ثقافية أخرى، يوقدها وعي جديد لدى الشباب بأن المشكلة العربية تتعلق بفشل التنمية وليس الخلود في مربع الخطابات الثورية حول إسرائيل والإمبريالية.. الخ

هناك مشكلة فقر، سوء تعليم، رشوة، فساد إداري، تعصبات اجتماعية، توترات طائفية، رداءة في المواطن العربي العادي فيما يتصل بعلاقته مع الآخر أو موقعه في المجتمع، وإحساس بعدم المسؤولية الفردية تجاه المجتمع. وهذه قضايا جديدة ليست من مباحث ومسائل الخطاب العربي لدى النخبة الثقافية الهرمة.

نعم العرب منقسمون، إما بسبب تضاد المصالح، أو بسبب خوفهم من الإصلاح والتغيير، وإما بسبب أنهم كأمة ووجود حضاري ربما انقرضوا! لماذا نستغرب ذلك؟! انقرضوا كما انقرض الفراعنة والإغريق وقوم سبأ، لكن الأمم، عكس الحيوانات، تحتاج إلى وقت أطول ليكتمل انقراضها الحضاري لا البيولوجي، وإما أن هذه الخضات والأوجاع والأنين من سوء الحال، ليست إلا أوجاع المخاض.. كل هذا وارد لكن يبقى أن لا ننتظر من المثقفين أن يكونوا خارج هذه الانقسامات والأمراض والعلل.

وبعد: تبقى هذه الدعوة التي أطلقها رئيس مؤسسة الفكر العربي فرصة لمساءلة المثقفين أنفسهم وطرح جردة حساب نقدية مع العقود الماضية من السنين التي شكل خطابَها هؤلاء المثقفون، عموما ليس هذا تخذيلا عن القمة الثقافية العربية، فالسيد عمرو موسى نفسه أخبرنا في لقاء مع جريدة «الشرق الأوسط» أنه قد يدعو إلى إلغاء القمة الاقتصادية الثانية، لأن توصيات وقرارات القمة الاقتصادية الأولى في الكويت لم تنفذ! ولا أظن القمة الثقافية ستكون أحسن حالا لو عقدت، فالمثقفون بطبيعتهم يبحثون عن الاختلاف وليس الائتلاف.

الحق أن ما تصنعه مؤسسة الفكر العربي بشكل منفرد لخدمة الثقافة وتخصيص البرامج التشجيعية لإشاعة ثقافة الحوار وأجواء التفكير والنقد ودفع حركة الترجمة، هذه الجهود وغيرها أطيب وأنفع وأسهل من جهود الجامعة العربية، مع التقدير والاحترام للجامعة.

لم تفد القمم العربية في قضايا السياسة، ولا في الاقتصاد، حيث تحولت قمة الكويت إلى منتدى سياسي ملتهب، لذلك لا يوجد سبب يدعو لأن يختلف مصير القمة الثقافية عن هذا السياق.

ما يفعله الأمير خالد الفيصل في السعودية والعالم العربي أو سلطان العويس في الإمارات أو محمد بن عيسى في المغرب، وغيرهم، أجدى وأبقى من قمم بلا همم.

[email protected]