عن المشاع السياسي العربي!

TT

عندما يصل الأمر بالرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد حد المطالبة بأن تشارك إيران في قيادة العالم، فليس مستغربا بالتالي، إذا تحدث بما يوحي وكأن منطقة الشرق الأوسط والخليج هي مجرد مشاع سياسي متروك تستطيع بلاده أن تخترقه كما تشاء.

قبل أسبوعين تقريبا تحدث وزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط عن النتائج الكارثية التي يمكن أن تصل إليها المنطقة العربية في غياب التضامن ووحدة الصف وبسبب الانقسامات، وحذر من أن العرب قد يجدون أنفسهم سبايا النفوذ الإقليمي المتنامي في إيران التي باتت تشكل لاعبا ثالثا مؤثرا وفاعلا في المنطقة، إضافة إلى إسرائيل وكذلك تركيا التي غيّرت اتجاهات مساعيها «الاختراقية» من البوابات الأوروبية الموصدة والصعبة شمالا إلى البوابات العربية المشرعة والسهلة جنوبا.

لم يكن الأمر مجرد تحليل. فمن الواضح منذ زمن غير قليل أن غياب التضامن العربي الحقيقي أضعف الدول العربية كلها تقريبا وجعل من المنطقة ساحة للخلافات والتناقضات شهدت مجموعة من الكوارث السياسية وحتى الأمنية.

فما حصل ويحصل بين الفلسطينيين كارثة سياسية وأمنية اتسعت وتمادت بعد إفشال «اتفاق مكة» الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين بين «فتح» و«حماس» وما قيل من أن الخلاف بين الطرفين الذي وصل حد التقاتل إنما تكمن البصمات الإيرانية في خلفياته وأبعاده.

وما حصل ويحصل بين اللبنانيين من انقسام سياسي عميق عطل الدولة وأوقع البلاد في فراغ رئاسي لمدة سبعة أشهر، كما أوقع موضوع تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات النيابية الأخيرة في التعطيل لمدة طويلة، إنما هو أيضا بشكل أو بآخر صناعة إيرانية كان لسوريا دور مهم فيها، لكن القمة الأخيرة بين خادم الحرمين الشريفين والرئيس بشار الأسد خففت من غلواء الانخراط السوري في عملية التعطيل الواسعة والمستمرة منذ عام 2005، والتي تبدو في كثير من مواقفها المعلنة ومظاهرها وكأنها تريد إحلال منطق «اتفاق الدوحة» في مكان «اتفاق الطائف» الذي صار دستور البلاد، بما يعني عمليا إسقاط مبدأ المناصفة بين المسيحيين والمسلمين وتكريس مبدأ المثالثة أي أن يكون الثلث للسنّة والثلث الثاني للشيعة والثلث الثالث للمسيحيين، ولهذا فإن مسألة «الثلث المعطل» كادت تصبح من الأعراف التي لها قوة الدستور في تشكيل السلطة التنفيذية، وهي بالتالي مركز القرار السياسي في البلاد.

أما ما حصل ويحصل في غياهب الجامعة العربية فإنه يشكل كارثة الكوارث سياسيا، لأن الجامعة باتت مجرد عنوان يؤكد الفشل والعجز والانقسام وهذه صفات ليست من صنع أهل الجامعة والمسؤولين فيها، بل هي من صنع «الأسرة» العربية المنقسمة.

ومن المعروف في هذا السياق أن الجامعة فشلت فشلا مخجلا وذريعا في معالجة كل القضايا والمشاكل التي واجهت الدول العربية: فشلت في لبنان والكل يتذكر قصة «المبادرة العربية» التي ماتت دون أن تحل فاصلة من أبجدية الأزمة في بيروت. وفشلت في حل الخلافات الفلسطينية الكارثية. وفشلت في السودان، وفشلت في العراق منذ اللحظة التي لم تتمكن حتى من نقل اقتراح المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان إلى صدام حسين في مسعى لمنع وقوع الحرب ضد العراق وفشلت في الصحراء الغربية وتكاد تكون فاشلة أينما كان.

ولماذا العودة إلى هذا الشريط من مواقع الفشل والمآسي!

لسبب وجيه جدا، يذكرنا الآن بكلام وزير خارجية مصر، وهو تحديدا الكلام الذي قاله الرئيس الإيراني في خلال استقباله رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قبل أيام، حيث أعلن أن في استطاعة إيران وتركيا أن تتعاونا في ملء الفراغ السياسي الناتج عن أخطاء العرب.

طبعا المقصود هنا هو الفراغ السياسي في منطقة الشرق الأوسط والخليج، حيث قال نجاد:

«كلما وسعت الدول الإقليمية علاقاتها واقتربت من بعضها، أمكنها حل مشاكلها والحد من مطامع أصحاب النيات السيئة الذين يتآمرون ضدها». واعتبر أن «تعاون إيران وتركيا سيفيد كلا الدولتين والمنطقة والعالم الإسلامي». وتطرق إلى «سياسات الدول الغربية في المنطقة خلال العقود الماضية»، قائلا إن «هذه الدول تواجه حاليا مأزقا حادا وأزمات جمة، والعالم اليوم بحاجة إلى سياسة جديدة حيث إن تركيا وإيران يمكنهما أن تملآ الفراغ الناتج عن فشل سياسات الدول الغربية».

المعنى الضمني للحديث عن «الفراغ السياسي» هو أن في طهران كما في أنقرة من ينظر إلى المنطقة العربية وكأنها مجرد خواء يملك قابلية فطرية لكل من يريد أن يملأه. وهذا أمر مزدوج الخطورة في الواقع.

أولا لأن الدول العربية مضت بعيدا في الخلافات والانقسامات التي أضعفت مواقفها وأسقطت تأثيرها المفترض وجعلت من المنطقة مجرد مشاع سائب تقريبا.

وثانيا، لأن الدول الإقليمية الثلاث سارعت كل منها على طريقتها لبسط نفوذها في المنطقة. إسرائيل عبر إصرارها على سياسة التوسع والعدوان وإفشال كل مساعي التسوية السلمية، وتنكرها للمبادرة العربية للسلام، ثم تمكنها من أن تلوي ذراع الرئيس باراك أوباما، على ما يظهر الآن من تمسكها بسياسة الاستيطان والتهجير التي ستؤدي سريعا إلى انهيار مبدأ قيام الدولتين وأسس مؤتمر أنابوليس.

ومن خلال التقاعس الأميركي والعجز الأوروبي عن دفع إسرائيل إلى استجابة شروط السلام العادل والشامل والدائم، التي وردت في «المبادرة العربية للسلام» كما في قرارات الشرعية الدولية أصلا، من خلال هذا تحصل إيران على ما يدعم طروحاتها التي تدعو إلى الممانعة والمقاومة وهو ما ساعدها عمليا على امتلاك مناطق نفوذ فاعلة على شواطئ المتوسط في جنوب لبنان وغزة.

وكذلك من خلال الموقف التركي الغاضب في مواجهة العدو الإسرائيلي، الذي اتخذه أردوغان ضد شيمعون بيريس في دافوس. بعد الجرائم التي اقترفها الجيش الإسرائيلي في غزة، كان طبيعيا أن تزداد شعبية الحكومة التركية سواء داخل تركيا أو في بعض العالم العربي.

من خلال كل هذا يستطيع المرء أن يدرك فعلا الأبعاد القومية العميقة والمهمة للمبادرة، التي بدأها خادم الحرمين الشريفين في خلال قمة الكويت، عندما انتفض على واقع الانقسام والتردي في العالم العربي، داعيا إلى تجاوز الماضي وطي صفحة الخلافات والقفز فوق الجروح والآلام، لإعادة بناء قاعدة للتضامن العربي المتين والقوي، الذي تحتاجه الأمة بقوة لحل المشاكل والأزمات التي تواجهها هنا أو هناك، وكذلك لإسقاط الطموحات التوسعية الإقليمية التي لا تنظر إلى المنطقة العربية إلا وكأنها مجرد مشاع سياسي يجب الانقضاض عليه.