العراق: تعددية مفرطة

TT

إذا كان هناك من وصف يصح على الائتلافات السياسية التي تشكلت لخوض الانتخابات النيابية العامة في مطلع العام القادم فإنه يمكن توصيفها بأنها ائتلافات انتخابية، في حين أن الملاحظة الأساسية عليها هي ظاهرة التعددية المفرطة للكيانات والأحزاب والكتل والائتلافات، حيث تتجمع قوى وشخصيات وممثلو عشائر في خلطة باتت مكررة، لإنتاج ائتلاف يراد به خوض الانتخابات، إلا أن المشترك الواضح والذي يصح أن يعمم، إنه ما من جامع يجمع بين هذه القوى المؤتلفة ضمن كل تشكل إلا الدافع الانتخابي، حيث نجد أن قوى تصطف وتتقارب وتنتقل من جهة إلى أخرى وهاجسها في ذلك قاعدة تصويتية تستهدفها وعينها على جمهور معين تظن أنه بهذه الخلطة ستوفر القدرة على اجتذابه، فتحشد لهذا الغرض شخصيات ومسميات وكتلا وأحزابا محاكية في ذلك الموجة السائدة ومناغمة مزاج الناخب، حيث باتت هذه الأيام الموجة هي موجة «الكتل الوطنية»، أما بعد ذلك فيمكن تسجيل عدد من المؤشرات والدلالات التي تؤكد على أن الغرض الانتخابي كغاية وليس وسيلة هو وراء هذه التشكلات، فهي أولا لا تختلف كثيرا في عدد الكتل المنضمة إلى كل ائتلاف فبات المعدل لعدد القوى المنضوية هو ما بين 40 ـ 50 تشكيل، رغم أنها من الناحية الفعلية تدور حول نواة قوية تتكون من حزب أو حزبين والبقية تشكلات ديكورية، حيث غالبية الكتل المكملة لا تعدو فعليا عن شخص هو القيادة وهو الجمهور، إلا أنه هذه الظاهرة على وهميتها، حيث يلحظ التورم المظلل فيها إلا أنه برصفها مع وجود ما يقارب 300 كيان مسجل في المفوضية لخوض الانتخابات، فإن ذلك يمثل تعبيرا واضحا عن التشرذم الفج الذي يسم الساحة السياسية العراقية ويبشر بخطورة استمرار ظاهرة عدم الاستقرار السياسي وتفاقمها والتي ستنعكس على كل مفاصل الحياة إذ لم يعِ الناخب ذلك ويحدد الخيارات ويحصرها بما يقضي أو يحجم من هذه الظاهرة المؤذية والتي من شأنها أن ترهن البلد للشلل المزمن، وهي أيضا تعبير على القدرة على الانشطارات الأميبية، وعلى استسهال العمل السياسي , وعلى عدم وجود ضابطية لنشوء وقيام الأحزاب والحركات حيث باتت غالبيتها موسمية تظهر في وقت الانتخابات وتنتهي وتموت بعدها، وهي تؤشر بأسف على أن العمل السياسي والانخراط فيه لم يعد يتوخى الخدمة العامة ولا هو يتطلب مزايا وقدرات ومؤهلات بل أصبح وظيفة مغرية كونها تسحب خلفها الامتيازات، حيث تفاقمت شهية التصارع والتنافس على السلطة كونها انفتحت بعد أن كانت مقفلة وتخصخصت بعد أن كانت محتكرة، فضلا عن أنه قبل ذلك فإن الموسم الانتخابي هو من جهة أخرى بازار للكسب المادي للبعض، حيث أصبح مجالا لكسب الدعم الخارجي والذي عادة ما يكون أكثر كرما عندما تكون التكتلات ضخمة الحجوم وقدراتها التنافسية كبيرة واحتمالية حصولها على جزء من السلطة بينة، لذا فباتت بعض الائتلافات تستجيب لرغبة الراعي الأجنبي واشتراطاته بتوفيرها للخلطة المستقطبة للدعم، وهنا يتم التنازل عن «شكليات» وتفاصيل لا يجدر الوقوف أو الانشغال بها عند أصحاب هذه التكتلات «الوطنية»، من مثل مفارقة أن تكون تكتلا وطنيا وبرعاية أجنبية، أو أن تعلو لديك أولوية السيادة وأنت مخترَق بأجندات خارجية، أو أن تبتغي خدمة شعبك وتستجلب له في الحين نفسه صراعات الآخرين، يتضافر مع ذلك عوامل أخرى تشجع هذه التعددية المفرطة، من مثل الشخصنة التي تهيمن على القوى السياسية، فنجد أن الانشقاقات لا تحدث بسبب من اختلاف فكري أو برامجي أو على تباين المقاربات، بل غالبا ما هي صراعات زعامات أو حول حق التمثيل أو الترشح للمناصب، وكدلالة على ذلك وأيضا كضمانة لعدم التشظي فإن الائتلافات التي تكونت أخيرا تعيش مشكلة الزعامة وتنافس الرموز، فلكي تحمي نفسها من الانفراط ولتحفظ وحدة مفتعلة لكي تعبر بها خانق الانتخابات فإنها تؤجل البحث في تحديد الزعامة أو البحث في مرشحيها للمناصب الأساسية، بخلاف الدارج في الديمقراطيات حيث لكل حزب أو قائمة زعيم والذي سيكون رئيس وزرائها المحتمل، وبالتالي الناخب يعرف على ماذا يصوت ومن سيقود حكومته إذا ما فازت القائمة، في حين يلحظ على هذه الائتلافات ربما باستثناء ائتلاف دولة القانون محسوم الزعامة للمالكي، والتكتل الكردستاني ذي القيادة التاريخية الثنائية، فإن باقي الائتلافات الرئيسية تجنبت ذلك، فإن تكتل «علاوي ـ المطلك ـ الهاشمي ـ النجيفي ـ العيساوي» لجأ لأسلوب قيادة المائدة المستديرة أو القيادة الخماسية وإن بتكتيك استباقي عمل علاوي ـ المطلك على الاندماج لتأكيد أرجحيتهم القيادية، لكن يظل هذا التحالف في المرحلة القادمة يختزن تنافسية مؤجلة كونه يضم رئيس وزراء وأربعة رؤساء جمهورية محتملين، يقابله على الجهة الأخرى الائتلاف الوطني الذي أجل أيضا الخوض في زعامته أو تحديد مرشحه لرئاسة الوزارة لكي يتجنب الخلاف أو التشقق المبكر لكونه أيضا يضم خمسة طامحين إلى منصب رئيس الوزراء.

لذا مع الأخذ بنظام التمثيل النسبي والذي يشجع بطبيعته على التعددية الحزبية، ومع تدني التجانس المجتمعي مما يدفع المجموعات إلى إيجاد أحزابها، ومع طغيان سمة الشخصنة على السياسة العراقية، وفي ظل غياب آليات مانعة من التعددية المفرطة كوضع عتبة لوصول الكتل للبرلمان لمنع الصغيرة منها، فإن المرحلة القادمة وبهكذا تعددية مفرطة ستلازمها بالحتم ظاهرة عدم الاستقرار السياسي، وكذلك ستتصف بالمراوحة في دائرة التوافقات والمساومات والترضيات، ما لم يعِ ذلك الناخبُ العراقي وينهِ بتصويته هذه التعددية المفرطة ويعقلن من هذه الديمقراطية.