كما قال

TT

انشغلت معظم وسائل الإعلام العربية والعالمية بإبداء استغرابها على وصف وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون استعداد نتنياهو «لكبح جماح» البناء في المستوطنات، على أنه «خطوة غير مسبوقة»، ولم يتسن للكثيرين منهم، ربما، الوقت الكافي لقراءة نص المؤتمر الصحفي الذي عقدته كلينتون مع نتنياهو في القدس المحتلة، والذي فعلا يستحق التسمية بأنه «غير مسبوق». ولكن قبل أن أتناول لغة وموضوع المؤتمر الصحفي، أود أن أقتبس بدقة ما قالته السيدة كلينتون، موضحة ومفسرة ما قدمه نتنياهو في موضوع المستوطنات: «ما قدمه رئيس الوزراء في تفاصيل إحجام في سياسة المستوطنات، والتي وصفها للتو، هو غير مسبوق في إطار المفاوضات السابقة»، وبهذا فقد تبرعت السيدة كلينتون في المؤتمر الصحفي بتوضيح ما قصده نتنياهو والثناء عليه والترويج له، متناسية أن تفكيك المستوطنات وتجميد المستوطنات، كانا شرطين أساسيين في مرجعية مؤتمر مدريد، كما أن الأمم المتحدة والعالم أجمع يؤكد لا شرعية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية والسورية المحتلة بما فيه بلدها هي، الولايات المتحدة الأميركية. ولكنّ اللافت هنا، بالإضافة إلى التراجع الخطير في موقفها هي كوزيرة خارجية، حيث أكدت مرارا وأمام شاشات التلفاز، أن إيقاف الاستيطان من جانب إسرائيل، شرط ضروري لاستئناف المفاوضات، اللافت هو أن تأخذ وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية دور المفسر والمروج لكل ما يتفوه به رئيس وزراء كيان يقوم بإبادة جماعية حربا وحصارا ضد شعب أعزل وينتهك المقدسات ويمارس القرصنة في وضح النهار.

ولم يكن هذا هو المثال الوحيد في المؤتمر الصحفي الذي تتبرع به وزيرة خارجية الولايات المتحدة بتفسير وتأييد وتسويق ما يصدر عن نتنياهو، الأمر الذي بدا غريبا ومستغربا بالفعل، وسيبدو كذلك حتى لو كانت هي وزيرة خارجية نتنياهو. فقد بدأ نتنياهو بتجاهله المطلب الأساسي للرئيس أوباما بوقف الاستيطان وقفز إلى المفاوضات، ومع ذلك كان رد وزيرة الخارجية الأميركية: «إنني أقدّر الكلمات الإيجابية جدا حول الحاجة للعودة إلى المفاوضات، والتي ستكون في مصلحة إسرائيل العليا وأمن إسرائيل»، مضيفة، كجملة رفع عتب «وأيضا خلق دولة للشعب الفلسطيني»، ولكن دون تحقيق مصالح الشعب الفلسطيني، أو أمن الشعب الفلسطيني، لأن المصلحة والأمن ذكرتا لإسرائيل فقط. وانتقلت في جوابها الثاني من هذه النقطة التي وضعت بها مصلحة إسرائيل وأمن إسرائيل كهدف نهائي للمفاوضات دون ذكر حقوق الشعب الفلسطيني أو أمنه، انتقلت إلى القول: «أريد من الجانبين البدء بالسرعة الممكنة في المفاوضات»، أي أنها تطلب من الفلسطينيين أن يسارعوا للدخول بمفاوضات تحقق «مصالح إسرائيل العليا وأمنها». مضيفة «الشيء المهم كما قال رئيس الوزراء للتو هو أن نبدأ المفاوضات. وقد أعطيت الرسالة نفسها اليوم للرئيس عباس حين التقيت معه». إذاً الوزيرة كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة الأميركية، تقف في مؤتمر صحفي مع رئيس وزراء كيان معتد ومرتكب لجرائم حرب ضد شعب فلسطين الأعزل، فقط كي تشرح ما يقوله للصحفيين وتؤكد عليه وتدعو الفلسطينيين للسير به والامتثال له. ولم يتوقف الأمر هنا، بل قالت في ختام جوابها «أعتقد أن أفضل سبيل لاختيار الطريق إلى الأمام هو، كما قال رئيس الوزراء، أن نبدأ بالسير على الطريق». وتخيلت للحظة لو أن رئيس الوزراء لم يقل شيئا، فماذا كان لدى الوزيرة كلينتون أن تقوله أو أن تؤيده. وما أن قلبت الصفحة لأقرأ السؤال التالي الذي سأله مارك لاندلر، مراسل «النيويورك تايمز»، حتى تأكدت من صحة مخاوفي.

فقد وجه مارك لاندلر السؤال التالي للسيدة كلينتون: «السيدة وزيرة الخارجية، حين كُنتِ هنا في آذار (أي في القدس) أعطيت تصريحا قويا تدينين به هدم البيوت في القدس الشرقية، ومع ذلك فإن الهدم استمر دون توقف، وبالواقع فإن محافظ القدس أصدر منذ أيام أمرا جديدا بالهدم، كيف تصفين هذه السياسة اليوم». ولكن ولأن رئيس الوزراء لم يجب على هذا السؤال، فإن وزيرة الخارجية لم تجب عليه أيضا، بل قالت: «دعني أقول ليس لدي شيء لأضيفه لما قلته في آذار». ولم تدن كلينتون هدم قوات الاحتلال لمنازل الفلسطينيين، ولم تدن مصادرة حتى الخيمة التي آوت إليها عائلتي حنون والغاوي، ولم تدن تشريد آلاف الفلسطينيين غيرهم وتعذيبهم على الحواجز والطرقات. ربما لا تعرف السيدة كلينتون ماذا يعني أن تأتي سلطة احتلال عنصرية شرسة لتهدم بيت إنسان، ولكن يمكن لها أن تتخيل العودة إلى منزلها المريح حتما، لا لترى أنه هدم، بل لترى أن لصا قد سرق كتبها وصورها وتاريخها وملابسها المفضلة وعطّل الماء والكهرباء، فلا يمكن لها العيش في المنزل، وتقف على الرصيف لا مأوى، ولا ذاكرة، ولا دفء ولا مكان لصنع الطعام. ولكن إذا كان يصعب على السيدة كلينتون تخيل ذلك، كان يمكن لها السير بضع خطوات فقط لترى ماذا فعل نتنياهو ومحافظ القدس بالقدس الشرقية وأهل فلسطين، وإذا كانت لا تعرف كل ذلك، فلا بدّ أنها تعرف أن هدم المنازل ممنوع دوليا حرمته اتفاقيات جنيف، وأن حق الإنسان في العيش بكرامة على أرضه ومنزله، هو أقدس حقوق الإنسان بعد حقه في الحياة. بعد كل هذا الأداء لوزيرة الخارجية الأميركية، أكد نتنياهو أنه يقبل رؤية حل الدولتين لشعبين: «دولة فلسطينية منزوعة السلاح تعترف بدولة يهودية في إسرائيل»، وأنه اتفق مع المسؤولين في الإدارة الأميركية «أنهما مستعدان للانخراط في محادثات السلام فورا دون شروط مسبقة»، وهنا أخذ نتنياهو المبادرة ليتحدث باسمه وباسم الولايات المتحدة بعد أن أكد أنه حاور الإدارة الأميركية واتفق معها على ما يقول، مريحا بذلك السيدة وزيرة الخارجية الأميركية من إعادة شرح ما يقوله والتأكيد عليه والترويج له. وبهذا لم يعد مهما ماذا قالت وزيرة الخارجية للوزراء العرب في المغرب، ولم يعد مهما تراجعها عن أقوالها أو تفسيرها لها، فقد وقفت أمام الكاميرات لتقول إن موقف الولايات المتحدة في الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو موقف حكومة نتنياهو، ولذلك ليس من المهم أن نبحث بعد اليوم عمّا تقوله السيدة كلينتون في هذا الشأن، بل يمكن الاكتفاء بما نسمعه من نتنياهو. وهذا الموقف، والذي يندرج في إطاره معظم مواقف الدول الغربية التي تسير في ظل الموقف الأميركي، خاصة فيما يتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، هو موقف يستهين بحياة العرب وكرامتهم وحقوقهم لأنه يدعو الفلسطينيين إلى العمل من أجل «مصلحة إسرائيل العليا وأمنها» دون ذكر لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وأمنه.

هذا الموقف ترجمه المندوب الأميركي في الجمعية العامة بالانسحاب، بعد أن تحدثت السفيرة الإسرائيلية هناك عن تقرير غولدستون، وهو الموقف الذي سيؤدي إلى اتخاذ قرار الفيتو الأميركي في مجلس الأمن، أي أنه الموقف الذي يؤيد ارتكاب حكام إسرائيل جرائم وحشية ضد المدنيين الفلسطينيين دون حساب أو ردع، وهو الموقف الذي يؤيد قتل ألف ومئتي طفل ومدني فلسطيني في غزة بقنابل الفوسفور، ويؤيد هدم مشافيهم ومدارسهم ومنازلهم وتركهم في العراء حتى اليوم دون دواء أو غذاء، وترك مليون ونصف فلسطيني تحت حصار عنصري لم يشهد له التاريخ مثيلا منذ تجربة الهنود الحمر في أميركا والأبورجينز في استراليا. والأكثر من ذلك أن نتنياهو يعتبر احتمال نقل سلاح إلى من يحاول صد كل هذا العدوان عن نفسه بأنه «جريمة حرب»، بينما تسلح ميركل إسرائيل بغواصات نووية دون أن توجه لها تهمة من هذا النوع، كما أن إسرائيل أصبحت بفضل الدول الغربية دولة مصدرة للسلاح، وهي دولة مدججة بالأسلحة النووية، فهل كل هذا يعني أنه يمكن للمعتدي الإسرائيلي امتلاك ما يريد من السلاح واستخدامه ضد المدنيين فقط لأنه يهودي، ولا يجوز للمعتدى عليه الفلسطيني امتلاك السلاح للدفاع عن نفسه، فقط لأنه عربي؟! مع أن قصة السفينة هدفت فقط لإبعاد النظر عن جرائم إسرائيل الواردة في تقرير غولدستون، ولإثارة التعاطف معها.

أية إساءة للديمقراطية التي يرتكبها السياسيون في الغرب عندما يبررون جرائم الحرب والقتل والتعذيب والحصار التي يرتكبها حكام إسرائيل ضد المدنيين العزل.

متى يفهم حكام العرب وإعلامهم عمق العنصرية والتعصب والكراهية الغربية ضدهم المتمثلة بالقائمة السوداء للدول التي صوتت ضد تقرير غولدستون لتبرير جرائم إسرائيل ضد المدنيين العرب، فقط لأنهم عرب، فيوحدون كلمتهم وسياساتهم، ومتى يتأكد شرفاء العالم من هول الجرائم التي ترتكب اليوم ضد شعبنا في فلسطين، فيقفون بجرأة وثبات ضدها، كي لا يلحق بأممهم عار التواطؤ مع مجرمي الإبادة والحرب والتطهير العرقي.