نحن.. ومصير غرناطة 1492

TT

«أسهل على المرء تصديق كذبة سمعها ألف مرة

من حقيقة لم يسمعها من قبل»

(القائل مجهول)

مع تطور حرب الحوثيين في جنوب شبه الجزيرة العربية، وإعلان الرئيس الفلسطيني محمود عباس إحجامه عن الترشح للمنصب بعد سحب واشنطن البساط من تحت أقدام الاعتدالين الفلسطيني والعربي، وتمخض الجبل اللبناني عن الصيغة الحكومية التي تمخض عنها، من دون أن ننسى حجر «الدومينو» العراقي، أول الأحجار الساقطة على رقعة المشرق العربي،.. ثمة حقائق مزعجة تفرض نفسها على المنطقة قيادات وشعوبا.

لكن الخيارات لا تزيد عن خيارين اثنين: الأول، مواصلة اعتماد «سياسة النعامة» لجهة دفن الرأس في الرمل عن طريق الاقتناع بأوهام يريد البعض تصديقها، وانطباعات مغلوطة يشتهي آخرون ترويجها والسير بأضاليلها. والثاني، إعادة نظر جذرية، عقلانية وعاجلة، في البنية الأساسية لنظام سياسي عربي مأزوم ومكبل بالضعف والانقسام والعوز إلى المؤسساتية وانعدام آليات الانتقال السلس للسلطة، شريطة أن تستند إلى حسابات دقيقة.. مع العدو والحليف والذات.

الانشغال بالتمني، باعتقادي، ما عاد يفيد.. لأنه ثبت خلال السنتين الأخيرتين عقم محاولات كسب الوقت وانتظار تغير ما في وضع إيران أو سياسات الولايات المتحدة، أو توقع نشوء وعي في الشارع الإسرائيلي يكفي لإلحاق الهزيمة بغلاة اليمين الفاشي والتوراتي.

في اليمن، ما عاد هناك أدنى شك في أن جماعة كالحوثيين، تتمركز في جبال يفترض ـ نظريا ـ أنها شبه معزولة عن خطوط التموين والدعم اللوجستي، ومع ذلك تتمكن من مواجهة جيش نظامي وشن تحرشات عبر الحدود.. جماعة تتمتع بمساندة خارجية قوية ومزمنة, وكذلك تستفيد من انقسام داخلي ما عاد من المقبول تجاهله. وثمة من يقول اليوم، إنه بينما غدت بصمات «تصدير» الشيعية السياسية الإيرانية إلى شمال اليمن واضحة، ما كان لهذا الاختراق أن يحصل لولا افتقار الجبهة الداخلية إلى الحصانة الوطنية المطلوبة، سواء على الصعيد الجغرافي بين الشمال والجنوب، أو الحساسيات القبلية القديمة الجديدة في الشمال نفسه، أو شكل الحياة الحزبية ـ الحكومية.

وفي فلسطين قد يستخف كثيرون، في فلسطين نفسها وفي أوساط فلسطينيي الخارج، بإعلان عباس قراره ألا يترشح مجدداُ للرئاسة.. بعدما برهن الواقع المر أن «دولته» أقرب إلى جرعة مخدّر ذات مفعول مؤقت منها إلى كيان قد يعبّر في يوم من الأيام عن النزر اليسير من طموح الشعب الفلسطيني. وأن «رئاسته» أشبه ما تكون برئاسة جمعية خيرية. بل يمكن لبعضهم أن يشمت بوضع «السلطة» ـ العديمة السلطة ـ بعدما أسقطت من أيديها معظم أوراق التفاوض. وبالتالي، أعطت حركة مثل حماس صدقية سياسية لا تستحقها، فسهّلت لها مهمة تقسيم المقسّم.. وإضعاف الضعيف.

ونصل إلى لبنان، حيث هلّت ـ تكرارا ـ في نهاية الأسبوع «بشائر» انتهاء المخاض الحكومي، مؤشرة للانتقال إلى مرحلة تالية، نحو «لا نظام» سياسي جديد.. يقضي الصدق بالقول إنه يقوم على أنقاض «اتفاق الطائف». فمع الاحترام للجهات المخلصة التي تحاول انتزاع التفاؤل من فكّي خيبة الأمل، أعتقد أن حتى السذّج من أفراد الشعب اللبناني، الذي غدا أخبر شعوب الأرض في خداع الذات، لن يصدّقوا الطمأنة المفتعلة إلى أن أنصار «الوفاق» هم الذين انتصروا أو في سبيلهم إلى الانتصار.

لا.. الإيحاء بأن كل شيء على يرام، وأن الأمور سائرة نحو التسهيل في ظل حكومة «وفاقية».. في غير محله. ولكن، ربما كان من المصلحة تجاهل الحقائق إذا كان من المتعذر تغييرها.

عندما خطّط «اللوبي الليكودي» في الولايات المتحدة لغزو العراق، استثمر هذا «اللوبي» اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 لتنفيذ الخطط الموضوعة عام 1996. وكان بول وولفويتز، صريحا عندما اقترح على الرئيس جورج بوش الابن أن يكون احتلال العراق وإسقاط حكم صدّام حسين جزءا من الرد على الاعتداءات «لأن الخطط موضوعة».. لا لأن للحكم العراقي أي صلة بالاعتداءات.

ونتذكر أيضا، أنه بعدما ضمن «الليكوديون» اجتياح الفوضى الطائفية الساحة العراقية عن طريقي الاختراقين الإيراني و«القاعدي»، كانوا أول من بدأ إطلاق الانتقادات لـ«طريقة إدارة» الاحتلال، الذي ألفوه ولحّنوه وأدوه!

المسألة المحورية في حسابات مخطّطي البرامج السياسية لبنيامين نتنياهو هي الهروب من السلام العادل والشامل. ولا مجال لتحقيق هذا الهروب غير زجّ المنطقة في فتن وتناقضات لا تنتهي. وسواءً كانت هناك مؤامرة إقليمية أو دولية متقنة الربط، أو أن الأمر لا يعدو كونه مجرّد «توارد خواطر» فظيع أو تقاطع مصالح أفظع، تعيش المنطقة كما نشهد اليوم فتنة طائفية دينية تغلي مراجلها، لاعباها الأساسيان إسرائيل وإيران.. ظاهريا من موقعين متقابلين.

فإسرائيل، تحت حكم الليكود، مصرّة على تصفية القضية الفلسطينية، وتأمين هذه التصفية وتغطيتها بإشعال الفتنة الطائفية في محيطها، وصرف أنظار العالم بعيدا عما ترتكبه بحق الفلسطينيين وضعفاء العرب.. بتوجيهها نحو «الخطر الإيراني».

وإيران، تحت حكم «الولي الفقيه»، تعتبر أن علة وجودها الانتقام لـ«غبنين» تاريخيين لحقا بما تمثله. الغبن الأول مذهبي يعود إلى يوم صفّين وما قبل صفين. والغبن الثاني قومي يتمثل بهزائم القادسية والمدائن ونهاوند. ثم إنها ترى ـ وهي محقة في هذا ـ أن لا مكان في عالم السياسة للضعفاء، وأن البلدان كرقعة الشطرنج، فمن يخلي خانة عليه توقع أن يملأها غريمه، و«الرزق السائب يُغري الناس بالحرام»، كما يقول المثل. وأخيرا لا آخرا، ترى إيران أيضا أنه إذا كان البعض يستكثر عليها اليوم الوصول إلى ساحل المتوسط ومضيق باب المندب، فكتب التاريخ تتكلم عن هيمنة ملوك إيران الأخمينيين على مصر وبلاد الشام والعراق وصولا إلى الأناضول واليونان. وبعد زمن، نجدة الإيرانيين سيف بن ذي يزن الحميري (516 ـ 579 م) في اليمن ضد الأحباش.

هذه حقائق مزعجة. لكن كونها مزعجة لا ينفي كونها حقائق. والتجارب المريرة العديدة أكدت أن ترحيل الاستحقاقات إلى ترضيات «عفا الله عما مضى» فاقمت الأزمات من دون أن تحلها. والأكيد أن الوضع سائر نحو مزيد من التفاقم، إذا ما استوعبنا التداعيات الخطيرة المحتملة لما يحدث في أفغانستان وباكستان على الفضاء الإسلامي ككل.

إن النظام السياسي العربي بانتظار حلول راديكالية وعاجلة، لا تنتهي كما انتهت «بيريسترويكا» ميخائيل غورباتشوف الخرقاء. وطبعا، لا يجوز انتظار تساقط دوله كتساقط مدن الأندلس.