إدمان إيران لـ«الشيطان الأكبر»

TT

لدى الإيرانيين لفظ يستخدمونه في وصف المأزق السياسي، «أبومباست»، ويعني أن الشارع مسدود من أحد طرفيه، أو عقدة يتعذر حلها.

يعد هذا وصفا جيدا للنقاش المتأزم في طهران حول القضية النووية، حيث مر أكثر من شهر على انعقاد ما جرت الإشادة به باعتباره اجتماعا تاريخيا مع الإيرانيين في جنيف حول برنامجهم النووي. الآن، يبدو أن الإيرانيين شرعوا في التقهقر عبر تنصلهم من الاتفاق المبدئي الذي سبق أن لمح مفاوضوهم إلى تأييدهم إياه.

في هذا الصدد، قال أحد الدبلوماسيين الأوروبيين البارزين المعنيين بالمفاوضات: «يسود شعور الآن بأن الإيرانيين عاجزون عن اتخاذ قرار حاسم». من جهته، أبدى عباس ميلاني، البروفسور في جامعة ستانفورد والذي يراقب عن كثب الأحداث في إيران، اتفاقه مع هذا الرأي، مضيفا: «من الواضح أنهم يرغبون في التراجع عن الاتفاق».

من أبرز المؤشرات على الفوضى التي تعتمل في إيران أنه على امتداد الشهر الماضي تمثل المؤيد الأساسي للتعاون مع الولايات المتحدة في الرئيس المتشدد محمود أحمدي نجاد. وتعرض الرئيس للهجوم بسبب استعداده المزعوم تقديم تنازلات إلى الغرب، وكان من بين مهاجميه بعض الإصلاحيين من أعضاء ما يعرف باسم «الحركة الخضراء» ممن عارضوه خلال الانتخابات الرئاسية في يونيو (حزيران).

المؤكد أن حالة التأزم الدبلوماسي الراهنة تشكل انتكاسة لإدارة أوباما التي جعلت من التعاون مع إيران واحدة من أبرز قضاياها. إلا أن الإدارة بدأت تكتشف الآن أن الحصول على موافقة إيران على اتفاق بات في حكم المستحيل في الوقت الحاضر. وتأتي هذه الأزمة في أعقاب انهيار المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، وهي القضية الأخرى التي حاول خلالها أوباما الشروع في بداية جديدة جريئة، لكن سرعان ما وجد نفسه محاصرا بإرث الماضي المرير.

أما ما سيشهده الموقف مع إيران في الفترة القادمة، حال استمرار التأزم الراهن على صعيد المفاوضات، فهو ظهور حملة ضغوط جديدة. أولا: سيدور جدال حول إقرار الأمم المتحدة مزيدا من العقوبات ضد إيران. وستكمن الأصوات الحاسمة في هذا الجدال في روسيا والصين، اللتين بمقدور أي منهما استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار عقابي جديد من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد أبدت كلتا الدولتين علانية حذرهما إزاء فرض مزيد من العقوبات ضد إيران. عند النظر إلى الوراء إلى الاجتماع الذي انعقد في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) في جنيف، من الواضح أن الإيرانيين كانوا يحاولون تقليل الخسائر بأكبر صورة ممكنة. ذكرت التقارير الأولية أن إيران وافقت على إجراء عمليات تفتيش لمنشآتها النووية التي كانت تفرض عليها السرية قبل ذلك في قم، علاوة على موافقتها على شحن معظم مخزوناتها من اليورانيوم منخفض التخصيب إلى روسيا كي يخضع لمزيد من المعالجة، والاستمرار في محادثات أوسع نطاقا حول برنامجها النووي وقضايا أخرى.

من بين هذه الأمور الثلاثة، تحققت الأولى فحسب ـ التفتيش على منشأة قم ـ على أرض الواقع بحلول 31 أكتوبر (تشرين الأول)، مثلما كان متوقعا. وبمرور الوقت، اتضح أن ما وعد به الإيرانيون بالفعل في جنيف هو عدم معارضة إعلان الغرب حدوث انفراجة في المحادثات بينهما، الأمر الذي يختلف تماما عن الإقرار العلني لما طرح خلال المحادثات.

الواضح أن إمكانية إبرام اتفاق مع «الشيطان الأكبر» أحدث انقساما سياسيا في طهران، فعلى مدار الأيام الأولى بعد اجتماع جنيف، التزمت الصحافة الصمت، في انتظار، على ما يبدو، الحصول على مؤشرات. ثم بدأت حملة الهجوم، وتكثفت بعد الاجتماع الذي استضافته فيينا في 21 أكتوبر (تشرين الأول) والذي كان من المفترض أن يصوغ تفاصيل نقل اليورانيوم الإيراني إلى روسيا. وشن نقاد هجوما شديدا ضد أحمدي نجاد لتخليه عن المخزون النووي.

أما النقد الأهم فصدر عن علي لاريجاني، رئيس البرلمان وكبير المفاوضين الإيرانيين على صعيد القضية النووية سابقا. قال لاريجاني: «يصر الغربيون على ممارسة نوع من الخداع». المعتقد أن لاريجاني لم يكن ليجرؤ على شن مثل هذا الهجوم لولا تأكده من دعم آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى، له.

في الواقع، انضم لاريجاني إلى الهجمات الأسبوع الماضي، حيث حذر من أن التفاوض مع الولايات المتحدة ينطوي على «سذاجة وتضليل». وحمل هذا القول انتقادا ضمنيا لأحمدي نجاد، الذي وصف الاتفاق المبرم في جنيف بأنه نصر إيراني.

ربما لا يعدو الأمر برمته خدعة تفاوضية محكمة ترمي لتعزيز موقف طهران التفاوضي. عند قراءة الصحف الإيرانية يتولد لدى المرء الشعور بأن النخبة الإيرانية الحاكمة لا تزال تنظر إلى التعاون مع الولايات المتحدة باعتباره أمرا بعيد الاحتمال. على سبيل المثال، شددت صحيفة «يا ليسارات» الأسبوعية على أن «أميركا لا تزال الشيطان الأكبر. وتفتقر المفاوضات إلى أي معنى حقيقي».

بدلا من الإعلان عن تأييدهم عقد حوار مع الولايات المتحدة، اختار الكثير من الإصلاحيين المحيطين برئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي، بدلا من ذلك، إحراز نقاط سياسية في مواجهة أحمدي نجاد.

ويمكن القول بأن أحداث الشهر المنصرم ذكرتنا جميعا كيف أن وجود وشرعية نظام خامنئي مرتبط على نحو بالغ باتباع توجه صارم مناهض لواشنطن. الواضح أن هذا الأمر يمتد حتى إلى الإصلاحيين المعارضين لخامنئي.

من ناحيته، أوضح كريم ساجادبور، من «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، أن التحدي أمام الرئيس أوباما الآن يكمن في كيفية التوصل إلى تسوية مع طهران التي ترغب في بقاء واشنطن عدوا لها. وكيف يمكن لأوباما تحقيق ذلك من دون خيانة المعارضة التي تحمل الأمل الأكبر للتغيير في إيران؟

*خدمة «واشنطن بوست».

خاص بـ«الشرق الأوسط».