عتم مقيم

TT

في شبابي ـ والشباب كله جهل كلي ـ كنت أجري مقابلات عابرة مع بعض كبار الكتاب والشعراء. وكنت أخالطهم بكرم منهم لم أستطع تقديره إلا في مشيبي. فلم أكن أعرف، أو أدرك، أو أعي، ولا كنت خبرت، أن الزمن لضنين بالعباقرة، مبذر بذرّ الرمال. وما كنت قد عرفت أن الندرة ذهب الأجيال، جيل بعد جيل، وأن الوقت ليس من ذهب ولا من ماس، وإنما مما هو أغلى من ذلك بكثير، الوقت من وقت، والعمر من سنين، والثانية أغلى من قنطار من الفضة.

كنت أطرح في المقابلات أسئلة ساذجة طرحها قبلي مئات الصحافيين: مَن تريد أن تكون؟ وكان أغلب الشعراء يقولون إنهم يريدون أن يصبحوا المتنبي، فأضحك من غرورهم. وكان أغلب الكتاب يقولون إنهم يريدون التفوق على الجاحظ. وكان بعض آخر يريد أن يصبح طه حسين أو العقاد. وكان التقليد يبدو مضحكا في أغلب الحالات. فكيف لأي زمن أن يلد متنبيا آخر، وكيف لأي كد أن ينتج من يوازي طه حسين، وفي أي أنبوب يمكن توليد العقاد أو نسخه؟

لكن الظاهرة يومها، ليست حجم ما يصير إليه الشعراء والكتَّاب، بل مدى ما يصبون إليه، وعلو ما يحلمون به. وأكتب ذلك لأنني عندما أقرأ مقابلات أدباء اليوم أشعر أنهم بلا أحلام وبلا طموح ومليئون بالكسل والاستسلام والخمول. لا أحد يجرؤ على ذكر اسم المتنبي ولا أحد يملك من المعرفة وغمار البيان ما يمكنه من القول إنه يحلم بأن يصير الجاحظ.

لم يعد هذا العصر عصر القدامى ولا عصر الحداثة ولا عصر التيارات الأدبية. مجرد شذرات هنا وشذرات هناك. ولا استمرارية وتطور في أي مكان. ولا أحلام. ولا تحديات. ولا أدباء يسكنون بروجهم كالعقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس. ومن هو الصحافي الذي يصدر اليوم، منفردا، مجلة مثل «الهلال». لقد ذهب جرجي زيدان إلى فلسطين أوائل القرن الماضي ليكتب سلسلة من المقالات الموسعة والمحققة حول الخطر الصهيوني الذي يهدد فلسطين والمنطقة. وبعد قرن، أي منذ عقد، قامت فرقة في دولة الإمارات تدعو إلى منع كتب زيدان. صعب أمر الجهل، لأنه نصف معرفة وربع ثقافة. دائما النصف المعتم في الجهل هو الذي يتكلم ويصرخ ولا يناقش، لأن الضوء يقتله كما يقتل سائر كائنات الظلام. وفي أي حال، فقدنا في هذا العصر الطاقة على الحلم والطاقة على التقليد ولم نعد نذكر النماذج الكبرى. معنا حق. هذه جرأة الاعتراف بزمن الكهف.