حين يضطر (الحليم) للغضب.. والقتال

TT

إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا

هذا رَجَزٌ تمثّله النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وردده مع أصحابه وهم يحفرون الخندق في موقعة الأحزاب. وكان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يمد صوته بآخر الأبيات: اهتدينا.. صلينا.. لاقينا.. أبينا: ترويحا للنفس من عناء الكدح.

وفي هذا التمثل بشعر عبد الله بن رواحة يثوي مفهومان كبيران: مفهوم أن البغي أتى من (الآخر) المعتدي، ومفهوم أن المؤمنين ـ بقيادة النبي ـ يأبون (الفتنة) ـ أي الحرب ـ ولا يتمنونها، وإن سارع إليها الآخر!

وقد يقال: إن هذا الرجز مقصود به كفار قريش، وإن الحوثيين (الذين أرادوا الفتنة، ومن ثم اضطرت السعودية لردعهم) ليسوا كفارا.. ونقول: هذا صحيح.. الحوثيون ليسوا كفارا، بيد أن رد العدوان وردعه لا يقتضي (كفر) مباشريه المتلبسين به:

أولا: لأن القاعدة الأصولية العلمية الصحيحة هي أن القتال المشروع في الإسلام، ليس سببه (الكفر) بل سببه الظلم والعدوان.. ولقد تكاثرت الأدلة القوية من الكتاب والسنة على ذلك.. من هذه الأدلة: وصية النبي لمعاذ حين بعثه على رأس سرية. فقد قال له: «لا تقاتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدؤوكم، فإن بدءوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلا ثم أروهم القتيل وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا السبيل، فلأن يهدي الله تعالى على يديك خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت».. ومنها قول النبي: «لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا».. (العسيف هو الفلاح أو الأجير).. وقد مر النبي بامرأة مشركة مقتولة فقال: «ما كانت هذه لتقاتل».. وبهذا عمل الخلفاء الراشدون.. قال أبو بكر: «لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا هرما» وقال عمر: «اتقوا الله في الفلاحين الذين لا يناصبونكم الحرب».

ثانيا: أن الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ امتنع عن (تكفير) الخوارج، ولكنه قاتلهم ـ ببأس شديد ـ حين حملوا عليه ـ وعلى الدولة ـ السلاح، قاتلهم لظلمهم وعدوانهم وصولتهم وفتنتهم الدامية.

ثالثا: أن صدام حسين ليس كافرا، ولكنه حين احتل الكويت واستدار للعدوان على المملكة: تخندق السعوديون ـ شعبا وحكومة وعلماء ـ وتأهبوا لردع عدوانه، والدفاع عن الوطن.

لهذه الأسباب: لم تكن السعودية (تتمنى) حرب الحوثيين ولا تريد أن تشغل نفسها بهم.

لكن عندما تطاول هؤلاء على الوطن في محاولات لاختراق حدوده والتسلل إلى داخله: وجب ـ بكل المقاييس والاعتبارات ـ ردعهم، وكسر شوكتهم، وردهم ـ من حيث أتوا ـ: رد الغيور يد الجاني عن الحرم.

ماذا يفعل (الحليم) المسالم إذا اعتُدي عليه؟.. إنه يدفع عن نفسه، وعن عرينه وحماه.. إنه يغضب الغضب المشروع: (فطرة وغريزة وعقيدة وقانونا ووطنية وسياسة وأمنا). ومن هنا، فإن (الحلم) لا يعني ـ قط ـ قبول الضيم، ولا المجاملة فيما لا تجوز المجاملة فيه.. ويقول لنا العلم إن غريزتي الغضب والقتال دون النفس قرينان أبدا: قرينان يتبادلان البقاء، ويتكاملان في الوظيفة: تكامل العلاقة والتعاون بين القلب والشرايين.

ثم إن السعودية وهي تأخذ نفسها بفلسفة (لا تتمنوا لقاء العدو)، ترتكز ـ في الوقت نفسه ـ إلى مبادئ ومفاهيم أخرى ـ متناغمة مع هذه الفلسفة ـ.. من هذه المبادئ والمفاهيم:

1ـ أن المملكة العربية السعودية بلد مشغول ـ إلى درجة الاستغراق والهيام ـ ببناء وتنمية نفسه: لكي يعوض ما فات.. ثم يلحق، ثم يتفوق في مباراة كبرى: ليس فيها للكسالى والمترددين والجامدين واللاهين: مكان، ولا دور، ولا تسجيل أهداف: بالتالي.

ومن خصائص هذا النوع من النهوض: التركيز العمودي والأفقي على (بناء الذات)، وهو تركيز لا يأذن بكثرة (التلفت) إلى معارك جانبية وانصرافية ـ كمعارك الحوثيين ـ ذلك أن كثرة التلفت في العمل تفسده.

2ـ إن اليمن هو الجار الجغرافي اللصيق، وهو الأخ التاريخي الشقيق للسعودية ـ في العروبة والإسلام ـ. ولذا، فإنه على الرغم من السهام التي انطلقت من اليمن ضد هذا البلد ـ في حقب معروفة ـ، فإن هذا البلد نفسه ظل يتسامى على جراحه، ويقدم للإخوة اليمنيين العون: بلا منّ، وبلا شروط مملاة. فللجوار، وللتآخي ـ مع اليمنيين ـ حقوق لا تهدر أو تنسى بسبب إساءات البعض.

3ـ إن السعودية مع استقرار اليمن السياسي ووحدته الجغرافية، وذلك لسببين الأول: أن المملكة بلد ذو نزوع وحدوي بل هو النموذج الأبرز في تحقيق الوحدة على مستوى الوطن العربي في العصر الحديث (الوحدة التي تبناها الملك عبد العزيز).. والسبب الثاني هو: أن استقرار اليمن ركيزة حيوية في حسابات الأمن الوطني السعودي من حيث إن اليمن هو أحد أهم (أحزمة) الأمن الوطني السعودي.

لهذه المفاهيم والمبادئ والأسباب، لم تكن المواجهة مع الحوثيين (المخترقين للأمن الوطني السعودي).. لم تكن هذه المواجهة (أُمنية)، ولا (هواية) للسعوديين، بل كانت (اضطرارا) حقيقيا ـ بالمفهوم العلمي لتعريف الضرورة ـ وهو (لحوق الهلاك أو الضرر الجسيم بالذات إذا هي لم تباشر أسباب دفع الهلاك أو الضرر الجسيم).. ومعلوم أن فقه الضرورة مستنبط من نصوص شرعية محكمة منها ـ مثلا ـ قول الله عز وجل: «فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم».

ونحن في هذه المواجهة مضطرون غير باغين، ولا عادين.

إن اليمن الشقيق بلد عزيز وغال عندنا، ومن ثم كان شأنه في الحس والوعي دوما.. مثلا عام 1995 حين احتلت إرتريا جزيرة حنيش (وهذه صفحة طويت على كل حال بمقتضى حصافة سياسية من قيادة البلدين).. حين وقع ذلك الاحتلال، كتبنا ـ في هذا المكان ـ نقول ـ تحت عنوان: حنيش ليش ـ: «هل من حق ارتريا أن تحتل جزيرة حنيش؟ الجواب بالنفي، وذلك لأمر جد عادل وجد بدهي وهو أن حنيش جزيرة يمنية لا ارترية، جزيرة يمنية بمنطوق القانون الدولي، وبموجب حقائق الجغرافيا والتاريخ، وينبغي ـ ها هنا ـ الوعي بمخططات (الإرباك) و(التدويخ) فهي مخططات ملغومة بخيار السكوت على التجاوزات الهاضمة للحقوق المتطاولة على السيادة».

وبهذه الروح، وهذا الوفاء والتقدير لليمن نتوجه بالنصح لليمنيين ـ شعبا وحكومة ـ نتوجه للشعب اليمني بأنه مهما كان من شأن الأحداث، فإن عروة الأخوة العربية الإسلامية الجوارية بين الشعبين الشقيقين ـ السعودي واليمني ـ لن تنفصم قط بعون الله وتوفيقه. فلقد وقعت أحداث أدهى من هذه فلم تستطع فصم هذه العروة الوثقى.. ثم إن هؤلاء الحوثيين لا يمثلون الشعب اليمني ـ وهذا أمر مؤكد ـ لا يمثلونه: لا في سياقه الفكري العام، ولا في نضجه السياسي، مثلا: من سوء التقدير السياسي لدى الحوثيين أنهم تطاولوا على السعودية في عهد رجل ذي حلم جم، وصبر جميل، ولكنه إذا غضب لوطنه لا يقف لغضبه شيء وهو الملك عبد الله بن عبد العزيز.

ونتوجه بالنصح للإدارة المركزية لليمن، وخلاصة النصح هي: العكوف على معرفة (الأسباب الذاتية) للقلاقل والاضطرابات في هذا الموقع أو ذاك من اليمن. فمعرفة الأسباب الذاتية وعلاجها هو (المفتاح الرئيس) لإخراج اليمن من أزماته المتلاحقة.. لا شك أن هناك عوامل خارجية للأزمات، بيد أن العوامل الخارجية إنما تفعل فعلها من خلال الأسباب الذاتية: «أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم».