سبب الجفاء بين إيران وأميركا

TT

قبل عشرين عاما من المحادثات المباشرة التي جمعت نائب وزير الخارجية الأميركي بنظيره الإيراني في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) في جنيف نشرت مقالا في صحيفة «إطلالات» تحت عنوان «المفاوضات المباشرة». في تلك الفترة كان النقاش بشأن قضية كهذه أحد المحظورات. وكان الموضوع الذي تعاملت معه في مقالي أحد الأمور التي يحرم التطرق إليها حينئذ في إيران. فلم ينتقدني كل المحافظين فقط، بل تعرضت لانتقادات عنيفة من جانب أصدقائي من الإصلاحيين أيضا. بيد أن البعض منهم بدل قناعاته بمرور الوقت وبات غالبيتهم الآن في السجن.

غير أنني الآن أود أن أشرح وجهة نظري من زاوية أخرى. فعندما كتبت ذلك المقال كنت نائبا للرئيس رافسنجاني، لكني أكتبه الآن كصحافي وروائي. انطلاقا من منطق نظرية الموقف فسأفسر القضايا السياسية من منظور جديد.

وخلال الأعوام الثلاثين الماضية كنا نسمع أن هناك حائطا كبيرا من عدم الثقة بين الولايات المتحدة وإيران، يصور الفجوة الضخمة والاختلافات بين الدولتين. وكان السبب الأساسي وراء هذه الأزمة يتمثل في انعدام الثقة بين الدولتين.

السؤال الجوهري هنا: كيف يمكننا إزالة هذا الجدار الضخم وبناء الثقة مرة أخرى؟ إذا ما أردنا أن نحقق هذا الهدف الذكي فيجب علينا التخلص من بعض البروتوكولات والتوقف عن التلاعب بالألفاظ. فجميعنا يعلم ما قاله ميترنيتش بأن الله وهب للإنسان اللسان ليتحدث به على عكس ما يرغب به قلبه.

وأعتقد أننا إذا ما كنا نرغب في الوصول إلى الحقيقة، فيجب علينا أن نستعد لتحمل بعض الكلمات المريرة. ففي بعض الأحيان لا تكون الحقيقة عذبة، لكني أعتقد أن مرارة الحقيقة أفضل من حلاوة الوهم. وأود أن أذكر هنا بكلمة أليكساندر سلزنستين التي ألقاها في جامعة هارفارد في 8 يونيو (حزيران) 1978 التي قال فيها: «وجد الكثيرون منا، كما سيجد آخرون في مسار حياتهم، أن الحقيقة خادعة إن لم ننتبه خلال سعينا إليها. وحتى عندما تخدعنا فإن الوهم يعوق معرفتها ويؤدي بنا إلى ارتكاب العديد من الأخطاء وسوء الفهم». نادرا ما تكون الحقيقة سارة وغالبا ما تكون مريرة. وقد تكون هناك بعض المرارة في كلامي اليوم لكنني أود أن أؤكد على أن الحقيقة تأتي من الخصم لا من الصديق.

ودعوني أكن أمينا، فبعد قراءة بعض المقالات التي نشرها معهد واشنطن تحت عنوان «الأجندة: إيران» شعرت بأن الجدار الكبير الذي تحدثنا عنه قد ازداد ارتفاعا بيني وبين معهد واشنطن. ففي كل مقال طالعته كان طول وعرض الجدار يزداد. وقد حاولت بذل قصارى جهدي وفتح نافذة في ذلك الحائط. فقد تكون اتجاهاتنا مختلفة، لكننا جميعا نرغب في الوصول إلى الحقيقة. فكما يقول جوناثان ساكس في «المنزل الذي بنيناه سويا»، نحن نعتبر المجتمع الدولي منزلنا وليس بيتا ريفيا أو فندقا. والفرق بين هذه الأنماط الثلاثة من الحياة موضوع مختلف. لكنني في هذا المقال أرغب في التركيز على أصول هذا الاختلاف.

1ـ كان ديستوفسكي صاحب رؤية وحكم فريدين بشأن أميركا. فغالبا ما تدخل فكرة الطيران إلى أميركا عقول شخصيات رواياته التي تجد أنفسها في حالة أزمة بعد رفض قيم دولتها أو رفضها لهم. ففي رواية «الجريمة والعقاب» فكر روسكولنيكوف في الفرار إلى الولايات المتحدة خوفا من المثول أمام الشرطة بعد أن ارتكب جرائمه بوقت قصير. وكذلك حديث ديمتري كارامازوف حول إمكانية الهرب من السجن والفرار إلى أميركا.

في تلك العقود، أعني هنا النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت أميركا حلما مثاليا للبشرية. فكانت أميركا والت ويتمان مثالا واضحا للإنسانية. ومات ويتمان بعد ديستوفسكي بعشر سنوات.

«قوية ومترامية الأطراف وصامدة وبارعة وغنية تفيض بالحرية والقانون والحب».

ويروي ديستوفسكي أنه كان جالسا على مقعده في قطار في أميركا، ولا أتذكر أكان ذلك سردا أم واقعة حقيقية أم أنها مجرد قصة قصيرة. على أية حال، أعتقد أن القصة وراء الحقيقة. فيقول إن «أميركيا كان يجلس أمامه، كان الرجل بالغ الضخامة ويرتدي ملابس واسعة. وفجأة أخذ مشطا صغيرا من جيبي وبدأ في تصفيف شعره وعندما انتهى أعاد المشط مرة أخرى. لم يقل الرجل شيئا ولم ينظر إلي ولو حتى بلمحة. وقد جلست أمامه وقتا طويلا لم ينظر إلي ولم ينبس ببنت شفه. ظننت أنه ربما يكون معتقدا أنني المسؤول عن مشطه وأنني ومشطي ضمن ممتلكاته. هل هذه هي أميركا؟»

2ـ لم يزر كافكا الولايات المتحدة مطلقا لكنه كتب رواية رائعة عن الولايات المتحدة. وكانت رواية «أميركا» أو ما يعرف أيضا باسم «دير فيرستشولن» أو «الرجل الذي اختفى» غير مكتملة، لكنها نشرت عام 1927. وفي الفصل الأخير من الرواية، الذي تقع أحداثه في مسرح أوكلاهوما، يقارن كافكا أميركا بالمسرح الكبير الذي يرغب كل فرد في كل أنحاء المعمورة في إيجاد عمل له عليه. وفي أحد الأيام رأى إعلانا يطلب فيه مسرح الطبيعة في أوكلاهوما موظفين ووعد المسرح بإيجاد وظائف للجميع وأعجب كارل بهذه الفكرة. وتقدم كارل للوظيفة وحصل على وظيفة عامل تقني وأرسل إلى أوكلاهوما عبر القطار ورحبت به الوديان المتسعة لكنه واجه الطقس السيئ. وعندما ننهي القصة نشعر بالبرودة التي تشبه النصال الحادة التي تمزق وجوهنا.

3 ـ بعد أربع سنوات من نشر رواية «أميركا» لكافكا، جاءت رواية ويليام فولكنر «الصوت والغضب» عام 1931 ويبدو أن وجهة نظره لا تزال تتحقق على أرض الواقع حتى الآن: فجاء في روايته: «أنا لا أدري كيف يمكن لمدينة ليست في حجم نيويورك أن تستوعب عددا كافيا من الأفراد لكي يأخذوا الأموال منا نحن أبناء البلاد. لقد أضحت الحياة جحيما، ترسل لهم مالك لتحصل على ورقة صغيرة بأن حسابك أغلق على 20.62. ولكي يستنفدوك أكثر، يجعلونك تراكم أرباح تلك الورقة الصغيرة، وفجأة تقع الكارثة، ليغلق حسابك مرة أخرى على 20.62. وإن لم يكن ذلك كافيا فيمكنك دفع عشرة دولارات شهريا لشخص ما ليخبرك كيف تخسر أموالك بصورة أسرع، إما في أمر لا يعلم شيئا عنه أو بالتعاون مع شركة البرق. لقد فاض الكيل بي منهم. لقد استنفدوني حتى الرمق الأخير. فمن هو غير ذاك الأحمق الذي يصدق كلمة يهودي بأن السوق في صعود طوال الوقت، مع تلك الدلتا الملعونة التي يتوقع أن يغمرها الفيضان مرة أخرى، وذاك القطن الذي يهلك عاما تلو العام، وهم هناك ينفقون خمسين ألف دولار في اليوم ليحافظوا على الجيش في نيكاراغوا أو في مكان آخر في العالم. بالطبع ستغرق مرة أخرى وسيصبح سعر رطل القطن ثلاثين سنتا. أنا لا أرغب في جني ربح كبير. لا أريد سوى استعادة نقودي مرة أخرى التي أخذها هؤلاء اليهود الملاعين بكل معلوماتهم الموثوقة. إذا فقد فاض بي الكيل، ويمكنهم تحيتي على كل مليم حصلوا عليه مني».

ودعوني أعرض لكم ثلاث صور أخرى مختلفة تماما. فالثلاث الأولي أوضحت وجهات نظر ديستوفسكي وكافكا وفولكنر. أما الجزء الثاني فيخص السير أنتوني إيدن وهنري كسنغر والجنرال نورمان شوارزكوف. وأرغب في أن أركز على وجهات النظر الثلاث هذه كوزير سابق للثقافة، لأوضح السر وراء هذا الحائط الكبير من انعدام الثقة وسوء التفاهم بين إيران والولايات المتحدة؛ لا بين حكومتين، بل بين النخب أيضا.

للسير أنتوني إيدن كتاب بعنوان: «ذكريات السير أنتوني إيدن.. دائرة كاملة» يصف فيه ذكريات غريبة عن نفسه فقال: «وصلتني أخبار الإطاحة بمصدق خلال فترة النقاهة، وكنت مع زوجتي وابني في رحلة بحرية في البحر الأبيض المتوسط بين الجزر اليونانية وقد نمت ملء جفوني في تلك الليلة».

كنت حينها في العشرين من عمري وكنت أعمل في فندق «سايروس» في أصفهان، وكان الفندق يقع على طريق زاينده، وكانت الساعة الثانية صباحا. كنت حينها أقرأ كتاب السير أنتوني وأجهشت بالبكاء. فكرت حينها أنه بعد تلك الليلة التي دمرت الولايات المتحدة وبريطانيا الديمقراطية والحرية لوزارة مصدق الوطنية، كانت البداية لليلة طويلة في تاريخنا المعاصر. ونتيجة لذلك، كان من المستحيل بعد أن قرأت مؤامرات سقوط حكومة مصدق أن أصدق أن الولايات المتحدة وبريطانيا تؤيد الديمقراطية للآخرين.

تلك الليلة التي كان السير أنتوني وابنه وزوجته ينامون فيها قريري الأعين اقتحمت قوات الشاه العديد من المنازل في إيران واعتقلوا العديد من الناشطين، وأعدموا العديد من رموز الحرية والديمقراطية في البلاد.

5ـ التقى كسينغر أنور السادات للوقوف على استراتيجية سياسية لدخول مصر وإسرائيل في مفاوضات مباشرة. وكانت الخطوة الأولى هي الدبلوماسية المتأنية. وروى كسينغر القصة في مذكراته. وعندما قدم كسينغر المقترح للسادات قرأه السادات وقال إنني موافق على هذا الاقتراح، الذي تمثل في مفاوضات مباشرة بين السادات وبيغن. وكتب كسينغر في مذكراته: «لم ترتسم على وجهي ابتسامة، لكني كنت أضحك وأضحك من أعماق قلبي لأن المقترح كتبه مناحم بيغن، وكان بتوقيعه».

6ـ يعرف الإيرانيون الجنرال نورمان شوارزكوف، ويعرفون خاصة والده هيربرت شوارزكوف جيدا. وقد كتب في سيرته الذاتية التي جاءت تحت عنوان: «الأمر لا يحتاج إلى بطل»: «استدعي والدي للقاء الجنرال جورج مارشال، الذي قال لوالدي أنا أريد أحد لاعبي كرة قدم من أكاديمية وست بوينت. وفي هذه الحالة فإن لاعب كرة قدم وست بوينت كان خبيرا، وكانت المهمة إيران».

كانت بلدنا أشبه بملعب كرة القدم وكان هناك لاعبان رئيسيان هما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، اللتان كانتا تتحكمان في مصائرنا. فمن الذي يستطيع أن ينسى أو يسامح ذلك الدور الذي لعبته كل من بريطانيا والولايات المتحدة في تدمير حرية وديمقراطية بلادي؟

كان ذلك وعرضي للوحات الست، والتي أرغب من روائها في القول إنني لا أؤمن بأن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تؤيدان الديمقراطية في بلادي. أعتقد أن الولايات المتحدة تريد في الأساس أنظمة ضعيفة في الشرق الأوسط. وقد قال لي راجيف غاندي ذات مرة إن الولايات المتحدة تريد افتعال المشكلات والأزمات وربما الكوارث داخل الدول وبين الدول في المنطقة.

ودعوني أبدأ هذا القسم الثاني من كلمتي بالاقتباس من الرئيس فرانكلين روزفلت في 29 ديسمبر (كانون الأول) 1940 عندما قال: «يجب أن نكون ترسانة ضخمة للديمقراطية».

بيد أني أعتقد أن الولايات المتحدة تحولت إلى ترسانة ضخمة من العسكرية. تلك العسكرية هي ثمرة الشجرة الأميركية. ولعل التساؤل الأهم هو كيف يمكننا تغيير رؤية أميركا تجاه العالم، وأعني تجاه إيران؟ تحصل الثمار على غذائها من الجذور، ومعهد واشنطن هنا جذر بارز. وعندما استدعيت إلى هنا بدأت في قراءة الكتب والوثائق التي نشرها معهد واشنطن. ووجدت أن من غير المعقول مطلقا قبول أن تكون الثورة الإسلامية خطأ دولة إيران.

والحركة الخضراء في إيران دليل واضح على محاولة الإيرانيين لتنفيذ الشعارات والأهداف المنسية. فقد كان الإيرانيون يتوقون على مدى ما يزيد على مائة عام إلى الحرية والديمقراطية والقيم الإنسانية، واليوم نسير في الطريق الصائب. وأعتقد أن الرؤية واضحة تماما، فنحن نعلم ما نحتاجه. وفي ظل الثورة الإسلامية علمنا ما لم نكن نعلمه. أعني أن الثورة الإسلامية كانت رد فعل على استبداد العائلة الملكية الإيرانية، ذلك الاستبداد الذي لقي دعما من الولايات المتحدة والغرب بل وحتى من روسيا والصين.

وقد قال محمد رضا شاه في مقدمة آخر كتبه «رد للتاريخ»: «فعلت ما بوسعي للقيام بكل ما ترغب به الولايات المتحدة، لكني لم أتمكن من فهم تصرفاتهم، إنني مريض وأرغب في الذهاب إلى المستشفى لكن إدارة كارتر لم تسمح لي بدخول الولايات المتحدة».

والآن لماذا لا ترسل الولايات المتحدة برسالة اعتذار إلى الشعب الإيراني وتعتذر على تنظيم انقلاب ضد مصدق؟

إذا أردنا بناء الثقة بيننا، وإذا ما أردنا بناء منزل وليس فندقا فمن الضروري التعامل مع هذه العوائق.