خواطر آسيوية

TT

العام 1974 كان ديكتاتور كوريا الجنوبية بارك تشونغ هي يلقي خطابا في قاعة المسرح الوطني عندما لمح رجلا يحمل مسدسا ويتجه نحوه وهو يطلق الرصاص، فانحنى خلف المنصة الخشبية ونجا، غير أن زوجته الجالسة خلفه وقعت على الأرض وأصيبت برصاصة في جبينها. وسارع المرافقون إلى حملها خارجا فيما عاد بارك إلى المنصة: «سيداتي سادتي، سوف أكمل خطابي». توفيت زوجته بعد ذلك بساعات.

عندما تسلم، أو استولى بارك، على السلطة العام 1961، كانت كوريا الجنوبية بين أفقر دول آسيا. ثلث سكانها كانوا (24 مليونا) جائعين ونصف الموازنة كانت تأتي من المساعدة الأميركية. وعندما اغتيل العام 1979 كانت بلاده تصنع السيارات والإلكترونيات والسفن والفولاذ. لقد قرر بارك أن ينسخ التجربة، أو «المعجزة» الاقتصادية اليابانية. وأن يفيد من التجربة المذهلة في ألمانيا الغربية.

وُلد بارك في عائلة شديدة الفقر العام 1917، وحاولت أمه تناول الأطعمة التي تساعدها على إجهاضه. في المدرسة، تحت الاحتلال الياباني، أظهر نبوغا شديدا ثم انضم إلى الجيش الياباني لكي «يتدرب على محاربة الاحتلال في ما بعد». إلا أنه وجد نفسه يقلد النموذج الياباني كليا. واعتمد في تحقيق النهضة الاقتصادية على كبار الصناعيين الذين طلعوا مثله من قاع الفقر، مثل تشونغ يويونغ، اليتيم الذي أصبح صاحب شركات «هيونداي».

جميع زعماء «دول النمور» في آسيا جردوا مواطنيهم من الحريات المألوفة ومنحوهم في المقابل ازدهارا مذهلا: كوريا الجنوبية، سنغافورة وماليزيا. ما هو الرابط؟ لا أدري. لكن كوريا الشمالية جردت مواطنيها من الحرية وأيضا من الكفاية والنمو والتطور. ولن تخرج من هذه الحالة الشديدة البؤس إلا إذا حاولت أن تقلد الصين التي حاولت أن تقلد سنغافورة التي حاولت أن تقلد اليابان التي حاولت أن تقلد أميركا التي حاولت أن تقلد بريطانيا التي حاولت أن تقلد روما.

الأنظمة التي تغلق على نفسها تموت في حضن نفسها. السوفيات انهاروا ضمن ستارهم الحديدي. وقبلهم سقطت اليابان الإمبراطورية التي فتحت ميناء واحدا للتعاطي مع العالم، خوفا من تسلل الحضارات والثقافات الأخرى. وبعدما انتهت الصين من بناء سورها اكتشفت أنها لم تصد العالم بل ضيقت على نفسها جدران السجن.

الذين كانوا قبل عشر سنوات يهاجمون العولمة باعتبارها هيمنة أميركية يكتشفون اليوم أنها ولدت العملاق الآسيوي وأن الصين تحمي الدولار من السقوط، وأن العولمة لم تبدأ بالسيطرة الأميركية بل عندما ذهب ياباني يُدعى موريتا إلى نيويورك ليشتري حقوق تصنيع أول راديو صغير الحجم، الذي سنعرفه بالترانزيستور. ويومها ضحك منه الجميع. وحاربته وزارة التجارة ولم تسمح له بدفع 25 ألف دولار ثمن الصفقة إلا بعد لأْي لكنه أصبح بعد قليل المستر «سوني»، وصانع الأحلام الإلكترونية التي تغزو العالم.

تبدو كلها قصصا طريفة ومبهجة لكن كم من الجهد والسنين والساعات والتضحية، حولت طحالب آسيا إلى نمور.