عندما يحين وقت السقوط الكبير

TT

«أن يكون المرء إنسانا صالحا فهذا لا يعني تلقائيا أنه مواطن صالح»

(أرسطو)

بعدما كنا أحيانا باندهاش وأحيانا أخرى بتعاطف، نشاهد منظر إحراق العلم الأميركي في شوارع مدن آسيا وأميركا اللاتينية، ثم مدن إيران، تحت وقع هتافات «ارحل أيها اليانكي» و«الموت لأميركا».. انتقلنا بالأمس إلى مرحلة أخرى.. إلى عصر إحراق العلم الجزائري أمام مبنى السفارة الجزائرية في القاهرة ومهاجمة مكاتب مؤسّسات مصرية في الجزائر..

إنه مشوار طويل عريض «أنجزه» عالمنا العربي على أصعدة الفشل والإحباط وانهيار المثل العليا والقيم الحضارية. وهنا، قبل أن يستفز هذا الكلام إخوتي في مصر والجزائر، أبادر فأقول كما قال أمير الشعراء شوقي «كلنا في الهم شرق». فلا أحد أفضل من أحد. وإن كان ما حدث في الأسبوع الماضي لا يشرف مصريا أو جزائريا.. فقد سبقهم إلى حيث هم معظم إخوتهم من المحيط إلى الخليج، في غير مناسبة قد تختلف شكلا، لكنها لا تختلف موضوعا أو خلاصة. فليس لأي منا أن يتباهى بواقع، أقل ما يقال فيه إنه بائس، تؤكده أرقام الأمم المتحدة عن مستويات التنمية والحكم الرشيد، كي لا نتطرق إلى «شرعية» السلطة وهشاشة الكيانات المهددة بالتقسيم والتقاسم.

لقد قيل الكثير عما حصل منذ مباراة الذهاب بين المنتخبين الكرويين الجزائري والمصري في الجزائر في ضوء الشحن والتحريض و«فبركة» الشائعات وترويجها واستنهاض مشاعر لا علاقة لها بالرياضة. وما انفلت من عقاله كان يمكن أن يفلته أي حدث آخر على شاكلة التنافس - مثلا - على منصب دولي، أو على تنظيم حدث عالمي.. فباختصار، ثمة دمّل كان بانتظار من يفقأه، وكان هذه المرة متدثرا قمصان المنتخبين الوطنيين المصري والجزائري المتنافسين على البطاقة التأهيلية العربية الأخيرة والوحيدة لنهائيات جنوب أفريقيا.

من ناحية رياضية كروية بحتة، أخفقت في بلوغ النهائيات منتخبات دول أعلى كعبا وأوفر خبرة من المنتخبين العربيين، منها على سبيل المثال لا الحصر منتخبات روسيا والمجر والجمهورية التشيكية، ولم تثر ثائرة العملاق الروسي، الذي كان يحكم نصف الدنيا، لأن منتخبه خسر وخرج على يد سلوفينيا، أصغر دولة «سلافية» في أوروبا والعالم. و«نشل» تييري هنري بيده أمام أنظار العالم، التأهل للمنتخب الفرنسي على حساب منتخب أيرلندا.. ومع هذا اكتفى الأيرلنديون بالاعتراض وفق الأصول عبر قنوات الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا». وظلت مكاتب شركات السفر واليد العاملة الوافدة في البلدين بمأمن من مشاعر «الأخوة» الفيّاضة.

وفي اليوم نفسه، بينما تسابقت وكالات الأنباء العالمية على تسجيل أحدث المستجدّات على صعيد «الأخوّة» المصرية – الجزائرية من استدعاء السفراء، وتسيير التظاهرات الجرّارة الغاضبة، وسقوط قتلى وجرحى ضحايا الفرح، وتلويح الاتحاد المصري لكرة القدم بوقف النشاط الرياضي لمدة سنتين (!)، ورد خبر بسيط عن اتصال هاتفي بين تاباري فاسكيز رئيس الأوروغواي وأوسكار آرياس رئيس كوستاريكا.

جاء في الخبر أن الثاني - حامل جائزة نوبل للسلام لعام 1987 - هنأ نظيره طبيب السرطان اللامع بصعود منتخب بلاده (الأوروغواي) وأثنى «على الجهد الذي بذله لاعبو الأوروغواي» (في مباراتهم التي أقصوا فيها منتخب كوستاريكا) وأعرب عن تمنياته بتقديم الفريق عروضا جيدة في جنوب أفريقيا. ورد فاسكيز بالإعراب عن امتنانه لآرياس «ولكل أفراد شعب البلد الشقيق» (كوستاريكا). ونوّه بـ«الجهد والكرامة الرياضية» اللذين أبداهما المنتخب الكوستاريكي على ملعب الـ«سينتيناريو» في مونتفيديو، عاصمة الأوروغواي، يوم الأربعاء الماضي في مباراة الإياب، التي انتهت بالتعادل 1 - 1 بعدما كان الأوروغويون قد فازوا خارج أرضهم 1 - 0 في مباراة الذهاب.. وعادوا - مع ذلك - إلى بلدهم سالمين.

للتذكير فقط، يقل عدد سكان الأوروغواي (بطلة العالم في كرة القدم مرتين) عن ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، وعدد سكان كوستاريكا عن أربعة ملايين ونصف المليون. وتفصل بينهما مسافة تقارب الـ5500 كلم تشمل ما لا يقل عن أربع دول.

عودة إلى مصر والجزائر. لقد حاول أصحاب المساعي الحميدة عبثا استحضار ماضي القربى والمحبة، مذكّرين بأن فرنسا إنما شاركت بـ«العدوان الثلاثي» على مصر عام 1956 لأن جمال عبد الناصر كان في طليعة داعمي الثورة الجزائرية، وأن بعض رموز الثورة درسوا في الأزهر، بل أن ملحن النشيد الوطني الجزائري هو الفنان المصري الراحل محمد فوزي. وفي المقابل، كانت الجزائر نِعم النصير لمصر منذ 1967، وقد استشهد العديد من الجزائريين بجانب إخوتهم المصريين عامي 1967 و1973..

إلا أن كل هذا الكلام يقصّر عن استيعاب حقائق جوهرية تتعلّق بالواقع السياسي والاجتماعي العربي.

من هذه الحقائق أن الهوية القومية الجامعة ترهلت، وما عادت تعني ما كانت تعنيه على امتداد العالم العربي قبل 30 أو 40 سنة. وهذا واقع لا ينطبق على العالم العربي فحسب، بل نراه بصورة أجلى وأوضح في أوروبا، حيث سقطت الحدود «القومية» وقام كيان مصلحي تعددي وديمقراطي كبير.

حقيقة أخرى هي أن التجارب أثبتت، مع الأسف، أن الإنسان العربي أبعد ما يكون عن مفهوم المواطنية Citizenship، فهو لا يزال يعيش في ظل أنظمة أبوية علاقته التفاعلية معها محدودة، وأحيانا معدومة. وإن فكرة «الدولة» كمؤسسة تأخذ وتعطي، وتفعل وتنفعل، وتؤثر وتتأثر باتجاهي القاعدة والقمة.. لا تزال غريبة عن ذهنية الفرد أو العشيرة أو المذهب. وعمليا، بعيدا عن القدرة على - أو الرغبة في - تحمل المسؤولية.. لا يتوفر الإدراك الكافي عند الشعب بوجود شيء اسمه «واجبات»، ولا الاعتراف الضروري عند السلطة بمركزية شيء اسمه «حقوق».

ثم، إنه لا بد من الإقرار بأن النظام السياسي - الاجتماعي أفرز نظاما تعليميا تسطيحيا يستولد ثقافة ضحلة وإعلاما قاصرا، ولذا يعجز شبابنا عن فهم خطورة التهديدات المحيطة بكياناتهم ومجتمعاتهم.

وفي وضع كهذا لا يعود مستغربا أن تتهدد كل شعوبنا في عقر دارها.. في العراق وفلسطين، واليمن ولبنان.. وكذلك - حيث أجريت «مباراة» الحسم - في السودان، المهدّد بتقسيم مزدوج من الجنوب ومن الغرب.

كلمة أخيرة. عندما فتح محمد الثاني (الفاتح) القسطنطينية عام 1453م يقال إن أهلها كانوا منشغلين بالجدل حول جنس الملائكة.

نحن اليوم منشغلون بـ«الفوتبول».