اللامنتمي المعاصر: قبائل المدن الكروية

TT

في عقد السبعينات، اقتديت بالبورجوازية اللبنانية. أقمت في قلب باريس المزدحم. لم يكن بيتي يبعد بأكثر من مائة متر عن قوس النصر الشهير. بعد معاناة ثلاث سنين مع التلوث وضجيج السيارات، هربت. اخترت الإقامة في ضاحية «بورت دو سان كلو»، حيث الخضرة. الهدوء. النظافة. الهواء الطلق الذي لم يلوثه لهاث مدينة تعيش حياتها اليومية وثبا.

تصادفت إقامتي إلى جانب القبائل الكروية التي تغزو مجمعا رياضيا ضخما في جواري. قبيل كل مباراة محلية أو دولية، ينتشر عشرات ألوف المراهقين والشباب أمام المقاهي، في الساحات والشوارع الفسيحة. تمتلئ البطون المنفوخة بالمسكرات، إلى أن يرى أصحابها «الديك حمارا» على رأي أبي نواس.

عندما تُفتح أبواب المجمع، يصعد السكارى المدرجات مترنحين مهزوزين. الضجيج يصم الآذان. سباب.هتافات. شعارات. أعلام. زجاجات. لافتات. نفايات. ينتهي عراك اللاعبين في الملعب. تعطي صفارة الحكم الإشارة، لبدء مشاجرات القبائل الكروية في المدرجات. تستأنف الجموع الشجار خارج المجمع. تحطم القبائل المخمورة كل ما تصادفه من زجاج السيارات والمنازل وواجهات المحال العامة، إلى أن تصل سيارات الشرطة والإسعاف.

بعد ثلاث سنوات أخرى مريرة، هربت إلى ضاحية بعيدة. لكن غدوت خبيرا بالقبائل الكروية. الكرة عند الطليان رشاوى ومافيات. عند الفرنسيين عبادة تلفزيونية. عند الألمان صناعة. عند الروس زجاجة فودكا. عند الإنجليز حرب عالمية. بات الإنجليز أول من يُهزم في المباريات وأول من يضرب الحكم واللاعبين والمدربين والمارة والقبائل الكروية الأخرى.

القبائل الكروية طبقة اجتماعية جديدة لم تخطر على بال ماركس. هي في أوروبا وأميركا اللاتينية أقدم مما هي في آسيا وأفريقيا وعند العرب. لكن السمات متشابهة، إلا في استثناءات قليلة. أتحدث هنا، فقط، عن هذه الكتل الهائلة في قاع المدينة، وفى أحزمة البؤس المحيطة بها. قبائل متحركة بين الأندية والملاعب. هي في الواقع إفراز للطبقتين البورجوازية والوسطى اللتين تدمنان، بفضل التلفزيون والصحافة، مشاهدة اللعبة في المنازل، من دون حاجة إلى الذهاب إلى الملاعب. وإدمانهما اللعبة هو من النوع المسالم البريء الذي لا يشكل متاعب للأنظمة، لا سيما الأنظمة التي ألغت السياسة.

الطبقة الكروية المتحركة شبه أمية. بلا ثقافة. بلا ذاكرة. بلا جذور. بلا وعي للسياسة والتاريخ. بلا ملامح تذكرك بها. بلا قيادات وزعامات تقودها. طبقة ساذجة يتراوح عمرها بين سن المراهقة وسن الشباب. طبقة مجهولة. غريبة عن مجتمع يتجاهلها. متعطلة عن العمل. معاقة في الحاضر. قلقة على المستقبل. القبيلة الكروية طبقة لا منتمية. تعيش على هامش الحراك الاجتماعي. طبقة لا تعي الصراع بين الطبقة الدينية التي سيست وحزبت الدين، والطبقة الليبرالية التي تعتبر هذا التسييس خطرا على العقل والثقافة والحريات السياسية والاجتماعية.

من هنا، فالنظام العربي راح منذ ثلاثين سنة، يوسع مساحة الطبقة الكروية اللا منتمية، على حساب الطبقتين الدينية والليبرالية. اللعبة عنده لا خطر منها. فهي سهلة. مفهومة. تسلية بريئة. المباريات حروب غير معلنة. تملأ فراغا. تستهلك بأمان فائض طاقة حيوية. لا خوف من حرية التعبير فيها. لا لديمقراطية السياسة. نعم، لديمقراطية الرياضة. نعم، لإنسان معاصر. لإنسان رياضي غير منتمٍ.

وهكذا، توسع النظام في بناء المجمعات الرياضية. أنفق بسخاء على بناء مدرجات مريحة. فالملعب مسرح الجماهير المدمنة والمحايدة. المدرجات منابر لها. النادي وطن عائلي بديل لوطن أرحب. الساسة ورجال الأعمال يتسابقون لشراء النوادي والفرق الرياضية، طمعا في الوجاهة والمفاخرة، واكتساب الشعبية الجماهيرية. غير أن الحرب الكروية، بين مصر والجزائر، قلبت هذا المفهوم المسلي للعبة. صفارة الحكم أطلقت إشارة الخطر. إدمان الكرة بات مرعبا. العنف تسلل ليغتال البراءة. العقل بات مشغولا بحركة أقدام تتدافع بأحذية مسمارية جارحة. أحيانا قاتلة. في التفسير النفسي، فرويد يعتبر اللعبة تحقيقا للذات. علم النفس الحديث يرى فيها تعبيرا عن غرائز عدوانية. لعبة استفزازية تنطوي على وحشية كامنة، في دحرجة وركل كرة أشبه برأس إنساني مفصول عن الجسد.

توارت براءة الهواية. الاحتراف حول اللاعبين والفرق إلى آلات «روبوتية» مبرمجة تباع وتشترى. لاعب الكرة بات أغلى من الإنسان. نجم آلي يقفز إذا سجل هدفا. يبكي إذا أضاع هدفا. زيدان ينطح إذا غضب أو أهين. عنتر الجزائر يشتم ويسب زملاءه اللاعبين المصريين. القبائل الكروية غادرت «باب الحارة». خاصمت الحارة المجاورة. بل المدينة المجاورة. بل الجار الشقيق.

في سوسيولوجيا الكرة، باتت اللعبة خطرا على الانسجام الاجتماعي. الأمن المدني. المصلحة القومية. العاطفة التي تربط أمة. مسايرة النظام للقبيلة الكروية أطلقت العنان لعصبية البيئة المحلية. باتت القبيلة هي التي تستغل النظام الذي استغلها. مباراة كروية في حدود نائية، فجرت مواجهة دامية بين العرب والأكراد في سورية (2004). زحف لهيب المواجهة أربعمائة كيلومتر إلى دمشق. قتل وجرح واعتقل المئات.

حروب القبيلة الكروية ورطت الأنظمة الشقيقة في خصومة عبثية. سُحب سفراء. استدعي سفراء. عتب رؤساء على رؤساء. حتى المسكين عمر البشير الذي حشد 16 ألف شرطي للفصل بين القبيلتين اللتين استضافهما، لم يسلم من الاتهام بالتهاون. لم يبق سوى استدعائه لمحكمة دولية «كروية» هذه المرة. تعرضت مشاريع استثمارية مصرية للأذى في الجزائر. جرح عشرات الضباط والجنود المصريين، وهم يردون أذى القبيلة المهاجمة للسفارة الجزائرية.

كان الرئيس بوتفليقة كبيرا في تعاطفه القومي مع السعودية واليمن ضد الشحن الإيراني للحوثيين. رد بوتفليقة الجميل للخليجيين الذين استضافوه وأكرموه. واجهت مصر حربا في السويس (1956) انتقاما منها لتأييدها ثورة الجزائر. رد بومدين الجميل بشراء الدبابات لمصر في حرب أكتوبر (1973).

قاتلت كتائب جزائرية في سيناء مع المصريين. المصريون متهمون بالعنصرية لكنهم فتحوا قلوبهم «للشوام» مثقفين وصحافيين وفنانين (أسمهان. فريد الأطرش. سعاد ونجاة حسني). بعد أم كلثوم، احتلت وردة الجزائرية قلوب وسمع المصريين أربعين سنة.

خطأ المصريين الوحيد مع الجزائر، هو سماحهم في غفلة عنهم، لقبيلة الإخوان الهاربة من عبد الناصر، بالهجرة إلى الجزائر. ساهم الإخوان في التعريب. لكن تزمتوا في الأسلمة. فقد ربع مليون جزائري حياتهم، في مجازر القبائل «الجهادية» التي ولدت من رحم الإخوان المهاجرين.

مع ذلك، كان العرب يأملون من جزائر الاستقلال في دبلوماسية عربية أقرب إليهم، من قربها إلى أفريقيا وكتلة عدم الانحياز. عندما وصل بوتفليقة (1999)، تفاءل العرب بحل جزائري عادل مع المغرب في قضية الصحراء. العرب اليوم في دهشة كبيرة، وهم يرون النظام يشحن قبائل المدن الكروية مجانا إلى السودان، مسايرة وإرضاء، بعدما قاتلها ورشقها بالغاز المسيل للدموع، قبل أسابيع قليلة في العاصمة، لمجرد مطالبتها بإسكان كريم لها. الحروب الكروية تنطفئ وتتلاشى بسرعة. فالقبيلة سريعة النسيان. الأمل كبير في استعادة الرئيسين مبارك وبوتفليقة مبادرة أصالتهما العربية، من كرة خبيثة تتدحرج على غير هدى.