نفذت بجلدها من الجلد!

TT

لم يدر في خلد القاضي السوداني، الذي أصدر حكماً بجلد الصحافية، لبنى الحسين، أربعين جلدة في قضية «البنطلون» الشهيرة، بأن حكمه سيتحول إلى قضية رأي عام عالمي، وأن الناس ستطالع القضية باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والسواحلية، وسينظر لحكمه في أنحاء كثيرة من العالم على أنه من نوع الغرائبيات التي لا تتفق مع حجم الخطأ إن وجد، فالجلد عقوبة معنوية أكثر منها حسية، والتوسع في استخدام هذه العقوبة خارج دائرة الحدود الشرعية أمر ينبغي حصره في نطاق الجرائم الكبرى التي تتطلب التعزير، وبالقدر المعقول أيضا، وإلا فإن الكثير من أحكام الجلد سيصعب تبريرها أمام الرأي العام العالمي، إذا ما نظرنا إلى أنفسنا كجزء من هذا العالم، ولا يمكن أن نستقيل منه لنعيش بمفردنا على هوانا ووفق ما نريد.

ويبدو أن الحكم صنع من الصحافية لبنى بين يوم وليلة ناشطة بارزة في مجال حقوق الإنسان، خاصة أنها من النوع الذي لديه الاستعداد لإيصال الأمور إلى نهاياتها المثيرة، فلم تتردد في توزيع مئات من بطاقات الدعوة لحضور حفل جلدها، وحتى حينما تأجلت عملية الجلد لم تكتف بالسلامة، بل واصلت احتجاجها واستنكارها على المادة 152 من قانون العقوبات التي سمحت بجلد عدد من النساء السودانيات، وها هي اليوم تفجر قنبلة إعلامية من شأنها أن ترسم صوراً قاتمة عن حياة المرأة في هذا البلد العربي الأصيل، إذ ستحتضن كتابها المعنون «40 جلدة من أجل بنطلون» ملايين العيون، وستتاجر بقضيتها الكثير من المنظمات المعادية التي تحاول تشويه صورة المجتمعات الإسلامية، وتضخيم قضاياها.

وأنا هنا لا ألوم الصحافية لبنى الحسين، التي نفذت بجلدها من الجلد إلى باريس لتصدر كتابها من هناك بعدد من اللغات بقدر ما ألوم من لم يستطع احتواء قضية ـ بحجم بنطال لبنى ـ تتطلب المناصحة والإقناع أكثر مما تتطلب العقوبة والتشهير، فعقوبة الجلد يستحقها من ارتكب كبيرة أو فعلا إجرامياً خطراً، لكن التوسع في استخدام هذه العقوبة في قضايا أقل شأناً من شأنه التشويش على مجتمعاتنا، بل وتعبئة سلال المتربصين من أعدائنا بما يرغبون بتصيده.

فهل نعي لما يمكن أن تثيره بعض الأحكام في عالم تحول بفعل ثورة الاتصالات إلى قرية صغيرة؟

[email protected]