الصحافة: الحرية الفالتة أسوأ من الرقابة

TT

أكتب عن الصحافة كتلميذ، ما زال يتعلم كل يوم درسا جديدا في مدرستها. وأكتب عن الصحافة كقارئ هاوٍ. يبدي ملاحظات. يقدم رؤى وأفكارا قابلة للنقد وللحوار والرفض.

السنون التي يراكمها الكاتب الصحافي في مدرسة الصحافة، لا تجعل منه «علاّمة فَهَّامة» يعتقد أنه يلقي عظات ودروسا. ويصدر أحكاما قطعية.

الموظف يتقاعد. السياسي يدير. يقرر. عندما يخفق ينسحب. يعتزل. الكاتب الصحافي المحترف لا يتقاعد. لا يعتزل. طالما أنه قادر على التفكير والمتابعة. طالما أنه يملك قوة الذهن والوعي.

كنت أرثي للراحل أحمد بهاء الدين. كان كلما أفاق من غيبوبته يكتب تعليقا سياسيا. يفتقد عمق وذكاء كاتب لامع. ثم يغط في الغيبوبة. يفيق بعد شهر أو سنة. يقدم تحليلا سياسيا بعيدا عن الحدث. كان كأهل الكهف الذين ناموا قرونا. ثم أفاقوا على كل جديد مختلف.

كنت مع مصطفى أمين. كان يعتقد أن الكاتب الصحافي يجب أن يكتب، طالما أنه قادر على الإمساك بالقلم. لكن كنت أرثي أيضا للكاتب الكبير. فَقَدَ على أبواب السبعين لمعته وسحر كلمته الساخرة. في سِنِيِّه المتأخرة، كان عقله لا يصحو. إلا عندما يتذكر.

كتبت بإسهاب عن عمالقة الصحافة العربية في القرن العشرين. عن التابعي. هيكل. مصطفى وعلي أمين. بهاء. غسان تويني. ظن بعض الصحافيين أني أُحَابي الصحافيين المصريين. كنت أقصد الرواد الذين غيروا لغة الصحافة. وطورا تقنية المهنة. هناك اليوم كتاب صحافة لامعون، لا سيما في الصحافة الخليجية.

لا فائدة من الحديث عن الصحافة، في بلدان تمارس الرقابة، وأنظمة تصدر صحفا حكومية. بات الحديث ممكنا عن صحافات تتمتع بحرية تختلف في المساحة والمستوى، في مصر. لبنان. الخليج. المغرب. الجزائر. العراق. الأردن.

كلما تحررت الصحافة، باتت قادرة على تقديم كتاب سياسيين لامعين. منذ عشرينات القرن الماضي، عرفت الصحافة السورية أمثال هؤلاء. منذ أوائل الستينات، كفت الصحافة السورية عن الإنجاب. الكاتب الصحافي الوحيد الذي أنجبته، خطفه الرئيس حافظ الأسد. وزَّره. جعله وزيرا للإعلام. مات أحمد اسكندر أحمد باكرا. مخنوقا بقيد الوظيفة. وليس في مهنة خنقتها الرقابة الصارمة.

عرفت الصحافة اللبنانية كيف تستفيد من الحرية الصحافية. رؤساء التحرير يمارسون الرقابة الذاتية، لضبط القدر من الحرية الذي تتمتع به صحفهم ومجلاتهم. الصحافة اللبنانية لا تخشى الدولة والحكومة، بقدر ما تخشى شارعا حرا. لكنه نَزِق. طائفي. شارع خطر ليس فقط على الحرية. إنما أيضا على الحياة، في عصر، يمنح قادة «حزب الله» أنفسهم العصمة المسلحة، الرافضة للنقد الصحافي الصريح.

أعتقد أن الصحافة الخليجية أوسع تحررا من الصحافة اللبنانية، في التعامل مع شارع خليجي حساس. لكنه شارع عاقل وحكيم، غير مُهَدِّدٍ للحرية وللحياة، كما هو الشارع اللبناني. غير أن الصحافة الخليجية أكثر تَهَيُّبا للنظام. الناشرون ورؤساء التحرير ينطوون على وعي سياسي، ونضج صحافي متزن، في ممارسة الرقابة الذاتية، حرصا على هذه الكمية الواسعة من الحرية التي باتوا يتمتعون بها.

في المغرب والجزائر، تحولت حرية الصحافة من سلعة كمالية، إلى سلعة ضرورية. لكن لا أعتقد أن الصحافة هناك تتمتع بصبر وخبرة الصحافة الشرقية والخليجية، في التعامل مع النظام والشارع والمجتمع. حرية الصحافة في المغرب تصطدم، غالبا، بدولة «المخزن» الراغبة في تحقيق تقدم وليد نحو الديمقراطية الدستورية. التدخل الصحافي غير الحكيم في خصوصية المؤسسة الملكية، يعرض الصحافة إلى الردع بقسوة القانون، في أحكام السجن والغرامة والحجب عن الصدور.

الحرب الكروية بين الجزائر ومصر تبرهن، مع الأسف، على أن الصحافة الجزائرية لا تستفيد من مساحة الحرية المحدودة التي تتمتع بها، في اكتساب رصانة الالتزام بدقة الخبر. كانت هناك مبالغة محمومة ونزقة، في إيراد خبر الاعتداء على باص الفريق الجزائري في القاهرة، وصولا إلى الزعم بوجود قتلى ومفقودين.

هذه المبالغة ساهمت في الإساءة إلى حرية الصحافة، مهما كانت محدودة. ساهمت أيضا في تعميق الأزمة. لم تكن منسجمة مع اعتقاد الرأي العام العربي، بأن وجود بوتفليقة، الابن الروحي البكر للعروبي الراحل هواري بومدين، على رأس هرم السلطة، سوف يضع العروبة فوق الكرة.

كصحافي وكعربي، أسفي على موقف الصحافة الجزائرية، لا يعادل حزني على حال الصحافة المصرية. ألغى عبد الناصر الحرية المحدودة للصحافة في العصر الملكي. لكن هو والسادات استخدما جيل العباقرة من كتاب الصحافة. رقابة ناصر ومزاجية السادات حالتا دون إنجاب جيل جديد من العباقرة. قال السادات: «يكفينا مصطفى أمين واحد» عندما منعه، بعد إخراجه من السجن، من تدريس الصحافة في الجامعة الأميركية.

في عصر مبارك، عرفت الصحافة المصرية حرية لم تعهدها في العصور السابقة. أغلب ظني أن الرئيس مبارك كان يريد، من الصحافة أن تمارس حرية متزنة. الحرية مسؤولية. الحرية الفالتة أسوأ من الرقابة. أيضا كالجزائر، كانت هناك هستيريا كروية في الصحافة القاهرية.

الكرة أزمة عابرة. لكن على مدى السنوات العشرين الأخيرة، تدهور مستوى التعليق والنقد والمعارضة في الصحافة المصرية. عندما أخفقت الصحافة المعارضة في تحريك الشارع ضد النظام، لجأت إلى المبالغة والإثارة إلى حد التهويش والثرثرة الفارغة، بلا أفكار جديدة. بلا رؤى بناءة. بل عمدت إلى استخدام العامية ولغة الشارع، في التعامل مع نظام يفضل المراوحة في المكان، على الإقدام على التغيير، بما في ذلك عدم الرغبة في الرجوع عن حرية الصحافة، مهما بلغ فلتانها وتأذيه منها.

باستثناء هيكل، لم يكن عمالقة الصحافة المصرية مثقفين. الثقافة سلعة كمالية في شارع الصحافة. لكن في غمرة هذه الحرية الفالتة اللا مسؤولية، لا بد للكاتب الصحافي من حد أدنى من الثقافة. فهي مؤهلة لتوفير حد أدنى من الشعور بمسؤولية الحرية والكلمة، وبالالتزام بحد أدنى من ضبط النفس والرقابة الذاتية، تماما كما تفعل، مثلا، الصحافة السعودية التي سبق أن قلت، إنها باتت تتمتع بحرية واسعة.

الصحافة العربية تحتاج إلى قوانين جديدة، تواكب تقدم الحرية الصحافية. قوانين يشارك في وضعها الصحافيون. قوانين تخلو من جلد الصحافيين بالغرامة الباهظة، وبالسجن كمجرمين عاديين. لكن قبل القوانين، فالصحافات العربية كلها تحتاج، إلى مرجعية صحافية وقانونية عالية مستقلة، ومستعدة لإصدار أحكام معنوية رادعة، كما في الصحافة البريطانية مثلا. مرجعيات نزيهة تضع حدا لتجاوز الصحافة على كرامة الناس وخصوصياتهم. مرجعيات تردع بالكلمة الصحافة التي تتجاوز الأمانة، إلى المبالغة في الأخبار المختلقة والكاذبة.

تحدثت اليوم عن حرية الصحافة. الحديث لا يكتمل إلا بتناول مهنية وتقنية الصحافة العربية، في اللغة. في فنون المقالة السياسية. التحليل الإخباري. التحقيق (الريبورتاج). الإخراج الفني. لعل الأحداث السياسية المتسارعة تسمح، لقارئ عاشق للصحافة، بالحديث عنها، في موعد قريب.