عيون جدة

TT

لا حديث يعلو، في السعودية، على كارثة جدة المائية هذه الأيام.

مقالات الصحف، عناوين الصفحة الأولى، التقارير والقصص الصحفية.

الفضائيات المهمة غطت الكارثة، وما زالت توالي البث فيما يستجد.

لكن الحصان الأسرع في هذه المواكبة الإعلامية، والحصان الأجرأ أيضا، كان الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والشخصي مثل الـ«فيس بوك»، والـ«تويتير»، وأيضا المجموعات البريدية، ناهيك عن رسائل «sms» على الهواتف الجوالة، ورسائل الوسائط المصورة التي يلتقطها الجميع للجميع، دون المرور بفلتر الجريدة أو الشاشة الفضائية.

نحن أمام حدث لا يمكن لأي وسيلة أو وسيط إعلامي أن يحتكر تصويره أو يسيطر على كيفية روايته وتقديمه للجمهور.

من هنا كانت سرعة التفاعل وحرارته غير المعتادة لدى بيئة الإعلام السعودي، على الأقل إلى عقد قريب من السنين، الصحافيون وكتبة الأخبار وصناع غرف التحرير، هم أنفسهم من مرتادي الإنترنت ويملكون حسابات خاصة على صفحات الـ«فيس بوك»، ويساهمون في تكوين المجموعات البريدية المنتشرة، فضلا عن من يكتب، ربما، في كثير من منتديات الحوار والنقاش العام في الشأن السعودي، بأسماء مستعارة.

الشوارع التي تفجرت في جدة والجثث التي وصلت، حتى اللحظة، إلى 105، حسب كلام الدفاع المدني في جدة، كل هذه المتغيرات الحادة والصور الصارخة، كشفت معها عن حضور جديد ومختلف لكيفية التفاعل الإعلامي.

ما جرى في جدة كارثة إنسانية، والمحزن أكثر أن فصولها لم تنته بعد، فما زال هناك جثث تنشل، وبيوت مهجورة، وعوائل نازحة أو مسكنة في مقرات مؤقتة، وأملاك تضررت أو دمرت بالكامل، والصور والملفات على موقع «يوتيوب» شاهد على ذلك، وهي صور التقطها الجمهور للجمهور مباشرة.

من يتابع مقالات الصحف السعودية التي نشرت، وستنشر، يجد «جردة» حساب طويلة مع من تسبب في حصول هذه الكارثة، وسيجد في صفحات الإنترنت أو سيستقبل على إيميله الكثير مما لم تقله مقالات الصحف، فيه الغث وفيه السمين طبعا، وفي الكتاب من هو صادق في النقد وفيهم من يريد ركوب موجة الاستياء العامة، والتكسب من خلفها، وهذا شيء طبيعي معتاد مع كل أزمة شعبية، في كل مجتمعات العالم. لكن الجانب الإيجابي في هذه المأساة هو إيقاظ الشعور بالرقابة الشعبية لدى المسؤول، وأن هناك عيونا تشاهد وآذانا ترصد وأصابع تكتب وألسنة تتحدث وكاميرات تلتقط الأحداث وتبثها متسربة من ثقوب الأسوار.

هذا الشعور بالرقابة الشعبية شيء مفيد ولا مناص منه، فبدون رقابة لا يمكن العمل بشكل جيد ومثمر، هذا ليس طعنا في نوايا المسؤول، ولكنه توصيف حقيقي لما هو أجدى للعمل.

مع الرقابة الشعبية تصبح مهمة المسؤول هي إثبات نفسه وإدارته أمام الجمهور ودفع القصور عن عمله.

ولأنه لا يوجد إنسان منزّه عن الخطأ أو الخطيئة، ولأن المسؤول هو إنسان، ولأن أخطاءه أو خطاياه ليست مقتصرة عليه بل تمس مصالح الناس كلهم، كان لا بد من وجود ضمانات تحول دون وقوع هذه الأخطاء والخطايا، في العمل العام، وآليات للثواب والعقاب، ومراصد متابعة لحسن الأداء.

ليس مهما اسم هذه الأدوات الضابطة للعمل العام، وليس مهما من يقوم عليها، وليس مهما التنظير لها فكريا أو شرعيا أو سياسيا، المهم هو وجود ضمانات لإجادة العمل العام وتحصين مصالح الناس والجمهور.

مشاعر الناس ساخنة، وحق لهم ذلك، وأملهم في معرفة الخلل كبير، وشوقهم إلى تفعيل آلية الثواب والعقاب عارم. ليست الفكرة هي تقديم كبش فداء إلى محرقة الجمهور، بل تقديم مقاربة شجاعة وحلول عملية للمشكلة، التي تتجاوز مجرد حدوث فيضانات قاتلة في جدة، إلى سوء خدمة مقدمة للمدينة، وهو سوء عمره عقود من السنين.

شيء مهم يضيع في غمرة هذه المشاعر الملتهبة، وخاصة أنها ما زالت مفتوحة الجرح، هو الخوف من أن يكون ضغط الشارع وإلحاح الناس للمحاسبة سبيلا للتسرع واتخاذ القرارات المهدئة، فالمهم هو مصارحة الناس من خلال تقديم حلول عملية حتى ولو لم ترض مشاعر الهائجين، فمع الوقت يكون الذين كسبوا جولة النقاش والعقل ـ على سبيل المثال، في أزمة مصر والجزائر بسبب مباراة الخرطوم الشهيرة وأحداث الشغب ـ هم من احتفظ بصفاء تفكيره رغم دخان الفضائيات الخاصة وحريق القش على صفحات الجرائد الصاخبة.

الإنترنت ومخاطبة الجمهور للجمهور مباشرة، كما أن له حسناته من خلال تجاوز حيطان الرقابة والفلترة وتشكيل ضغط على المسؤول المعنى، فإن له سيئاته أيضا، فلا مجال فيه لتحقيق المعلومات والتأكد من صدقيتها، ولا مجال فيه لمنع المواد ذات الطابع الكيدي الشخصي، ولا مجال فيه لحجب الأخبار والمقالات التي تحمل موقفا خاصا بصاحبها ذات هذه الجهة أو تلك لمجرد حنق شخصي عليها، وكم قرأنا وشاهدنا من أخبار ومعلومات في الإنترنت هي من صنع الخيال المريض والحقد الشخصي، تتحول بقدرة قادر إلى مواد إعلامية طيارة ومتشظية في مئات المواقع وآلاف الإيميلات، ولا عزاء للمتضرر.

لكن ماذا نفعل؟! هذا هو واقع الإنترنت وعلينا التعامل معه بهذا الشكل إلى أن يصل مستخدموه إلى آليات تميز الغث من السمين أو يقضي الله أمرا كان مفعولا، فعلى المسؤول أن يتسع صدره لما يمكن أن يحمله الإنترنت من مبالغات أو كذب أو فبركات، وأن يراهن على أن الحقيقة تكسب في النهاية احترام المتلقي.

أمر أخير، يستحق نقاشا أوسع، ولكن أشير له بشكل خاطف: مع فيضان جدة المحزن هل تكشف لنا المجتمع السعودي عن تحولات جديدة؟ هل بدأ الإنترنت يتحول إلى فاعل حقيقي ووسيط مهم في صناعة الرأي العام وفرض الأجندة العامة؟

لا ندري، ولكن الذي ندريه أنه لا مناص من تقديم كشف حساب عن ما جرى، حتى تكون جدة، مدينة التعدد والتجدد، كعادتها مثالا للجمال والعدل، وسباقة في الارتياد لأهل البلاد، إلى آفاق جديدة.

[email protected]