إيران: سفينة جانحة بلا ربان

TT

أيا ما كان المنظور الذي يتخذه المرء، تبدو الأمور على غير ما يرام بالنسبة إلى النظام الخوميني في طهران.

على ما يبدو، أصيبت عملية صنع القرار بالشلل، في الوقت الذي تتعثر «السلطات» ـ إذا جاز لنا استخدام هذا اللفظ في الإشارة إلى عصبة الحمقى المسؤولين ـ متنقلة من أزمة إلى أخرى.

على الصعيد الداخلي، تأكدت الملحمة الحزينة باندلاع مظاهرات مناوئة للنظام واحدة تلو الأخرى. ومن المقرر تنظيم سلسلة المسيرات الجماهيرية التالية الأسبوع المقبل بالتزامن مع احتفالات البلاد التقليدية بـ«يوم الطلاب».

في الوقت ذاته ترسم البيانات الأخيرة الصادرة عن «مصرف إيران المركزي» صورة لحالة من التداعي الاقتصادي مع كسر معدلات التضخم حاجز 10% وعصف البطالة بحياة الملايين.

من بين المؤشرات المؤكدة على معاناة البلاد أزمة الزيادة الهائلة في مرات ظهور «المرشد الأعلى»، علي خامنئي، فعلى مدار الشهور الستة السابقة، ظهر آية الله في العلن مرات تفوق في عددها إجمالي مرات ظهوره العلني طوال العقد الماضي تقريبا. الواضح أن فكرة أن «المرشد الأعلى» يمثل «الإمام المخفي»، وينبغي أن يحيطه حد أدنى من الغموض جرى التخلي عنها، ليتحول خامنئي إلى مصارع آخر يقاتل داخل حلبة يغطيها الوحل.

في إطار النظام الخوميني، من المفترض أن يلتزم «المرشد الأعلى» الحيادية والبقاء فوق الفرق والمعسكرات المتناحرة، وأن يظل مستعدا لتعزيز التسامح والمصالحة. عبر تحوله إلى واحد من المتصارعين المتورطين في القتال بعضهم ضد بعض في إطار صراع قذر على السلطة، حرم خامنئي النظام من آلية الأمان الرئيسية له.

من جهته بقي الرئيس محمود أحمدي نجاد متوافقا مع ما عرف عنه من سلوك أخرق وعجز عن التوصل ولو إلى القدر الأدنى من التسوية.

الملاحظ أن العناصر البارزة الأخرى في النظام تتخذ نهجا لا يقل خطأ وخطورة.

من جانبه تحلى هاشمي رافسنجاني، الرئيس الأسبق المتقلب، بالشجاعة وخاض محاولة يائسة للتوصل إلى تسوية. إلا أنه مع تصويب السهام إليه من الاتجاهات كافة قرر الانسحاب إلى داخل شرنقته وصب اهتمامه على الحفاظ على ثروته التي تشير مزاعم إلى أنه جناها عبر سبل غير مشروعة.

الواضح أن علي أردشير لاريجاني، رئيس البرلمان، يتبع استراتيجية ذات طابع انتهازي أكبر، على أمل أن ينتهي الحال بأحمدي نجاد وخصومه المعارضين بتدمير بعضهم بعضا، وجرهم خامنئي معهم إلى الهاوية. من شأن ذلك تمهيد الطريق أمام علي أردشير لتولي رئاسة الجمهورية الإسلامية، بينما يستحوذ شقيقه الأكبر صادق أردشير، الملا ورئيس السلطة القضائية حاليا، منصب «المرشد الأعلى».

ويقف جنرال محمد باقر قاليباف، عمدة طهران وأحد أكثر قادة فيالق الحرس الثوري الإسلامي طموحا، جانبا يراقب ما يدور. وتتمثل خطته في الترويج لنفسه باعتباره كنزا وطنيا ورجلا مبعوثا من العناية الإلهية، بحيث يظهر على الساحة بعد أن يقضي السياسيون والملالي بعضهم على بعض، وتتمزق البلاد إربا.

ومن غير المثير للدهشة أن نجد أن البطل السري لقاليباف ومثله الأعلى هو رضا خان، الضابط الذي استولى على السلطة عام 1921 في ظروف مشابهة وأصبح بعد أربع سنوات لاحقة شاه البلاد.

من ناحية، ليس هناك ما يضير في سعي سياسيين متعطشين للسلة وراء مصالحهم الشخصية، بيد أن المشكلة الحقيقية تكمن في أنه مع تورط جميع الشخصيات المحورية في النظام في صراع من أجل البقاء أو تنافس للاستئثار بالسلطة، تبقى سفينة البلاد بلا ربان في ظل هذه الأوقات المضطربة.

حاليا، ليست هناك مفاوضات بين السلطات والمعارضة حول التوصل إلى سبيل للخروج من الأزمة. والواضح أن إدارة أحمدي نجاد الجديدة عاجزة عن توفير استراتيجية موثوق بها. وبالمثل، تبدو ما يسمى بالمعارضة «الخضراء» عاجزة عن طرح استراتيجية محددة، ولا يمكن النظر مطلقا إلى المسيرات الاعتراضية التي تنظمها من حين إلى آخر كبديل عن سياسة واضحة.

خارجيا، تعاني الجمهورية الإسلامية من وضع أكثر كارثية، ففي وقت سابق من هذا الشهر قام الرئيس أحمدي نجاد بجولة شملت البرازيل وفنزويلا والسنغال في محاولة لاكتساب بعض الشرعية لتعزيز مركزه داخليا. الملاحظ أن أحمدي نجاد تلقى في الدول الثلاث كافة معاملة دون المستوى المناسب لرئيس إيراني.

لم يكلف أي من الرئيس البرازيلي لويز إناسيو لولا دا سيلفا ونظيره الفنزويلي هوغو شافيز نفسيهما عناء التوجه إلى المطار لاستقبال أحمدي نجاد، ولم يقِم أي منهما له مأدبة رسمية، حسبما تقضي قواعد البروتوكول. الواضح أن شافيز، الذي استفاد من دعم سياسي واقتصادي إيراني، فقدَ مشاعر المودة الأخوية تجاه ضيفه الإيراني.

في كاراكاس، عاصمة فنزويلا، اضطر أحمدي نجاد إلى الوقوف احتراما في أثناء عزف النشيد الوطني الإيراني الخاص بحقبة ما بعد الثورة الذي جرى عزفه بدلا من الآخر الذي أقره الملالي عام 1979.

في السنغال، حرص الرئيس السنغالي عبد الله وادي أن تخلو زيارة أحمدي نجاد الرسمية للبلاد من الاحتفالات الكبيرة والاحتفاء الذي ميز زيارة الإمبراطورة فرح للعاصمة داكار منذ قرابة 40 عاما ماضية.

إلا أن المشكلة الرئيسية المتعلقة بالسياسة الخارجية لأحمدي نجاد لا تتركز في صفعات بروتوكولية، وإنما في أنها جعلت البلاد أكثر عزلة وعرضة للخطر عن أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الإيرانية ـ العراقية عام 1989.

الأسبوع الماضي، وافقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأغلبية كبيرة على قرار جديد يحمل اتهاما ضمنيا للجمهورية الإسلامية بالكذب والغش. الملاحظ أن الوكالة لم يسبق لها قط إهانة أي من أعضائها على هذا النحو، وجاء ذلك رغم محاولة المدير المتقاعد للوكالة، محمد البرادعي، منح طهران الاستفادة من قرينة الشك.

لقد دفعت سياسة أحمدي نجاد الخارجية الطائشة إيران في مغامرات خيالية جامحة. وداخل العواصم العالمية يجري الحديث بعد تناول المآدب حول من سيهاجم إيران ومدى قسوة الهجمات المنتظرة كما لو كانوا يتحدثون عن الأحوال الجوية.

لم يعد يهم ما إذا كان المرء يروق له النظام الذي ابتدعه الخوميني، وإنما المهم الآن أن الجمهورية الإسلامية باتت أشبه بسفينة جانحة بلا ربان في بحر هائج، الأمر الذي يعد أنباء سيئة لإيران والمنطقة والعالم بأسره.