هل لديك القوة الكافية لإعادة توجيه روسيا؟

TT

كان القاضي أوليفر وينديل هولمز أول من لاحظ أن العلاقات بين أي فردين تتضمن في حقيقة الأمر ستة «أشخاص»: صورة كل منهما عن نفسه، وصورة كل منهما عن الآخر، وحقيقة كل منهما. طبقا لهذه القاعدة، فإن نجاح سياسة «إعادة التوجيه» التي يتبعها الرئيس الأميركي باراك أوباما إزاء روسيا ستعتمد ليس فقط على اتخاذ الولايات المتحدة خطوات صائبة تجاه روسيا، وإنما كذلك التعرف على صورة الولايات المتحدة ورئيسها الجديد في أعين الكرملين.

على خلاف الحال مع الكثير من منتقديها، لا تبدي إدارة أوباما الجديدة ميلا للنظر إلى روسيا ـ بوتين باعتبارها مجرد امتداد للاتحاد السوفياتي. رغم أن روسيا اليوم ليست دولة ديمقراطية، فإنها أيضا ليست نظاما استبداديا يتحرك بدافع أيديولوجي. لقد أصبح الروس اليوم أكثر ثراء ويتمتعون بحريات أكبر عن أي حقبة مضت في تاريخهم. ولم يعد هم النخب الروسية منصبا على تدمير الرأسمالية، إنما بات تركيزهم الأساسي يدور حول كيفية الاستمتاع بها. ورغم تأييد الغالبية العظمى من الروس للديمقراطية، فإن غالبيتهم أيضا تساورهم مشاعر ريبة عميقة حيال رغبة أميركا إقرار الديمقراطية في بلادهم. وعليه، فإن أي آمال معقودة على إمكانية أن تنجح ضغوط أميركية في تحقيق تغيير ديمقراطي داخل روسيا لا تعدو كونها وهما.

علاوة على ذلك، فإن أوباما محق في اعتقاده بأن روسيا تشكل قوة متراجعة أكثر منها قوة صاعدة، وأن خطواتها «التعديلية» الأخيرة ـ التي تجلت في حربها مع جورجيا أغسطس (آب) الماضي ـ تبدو كمؤشر على افتقار الكرملين إلى الشعور بالأمن، وليس وجود مساع لتنفيذ مخططات إمبريالية. في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، ينتاب الكرملين ذعر بالغ حيال ضعف روسيا وغياب أهميتها بالنسبة لحقبة ما بعد الحرب الباردة. ويسعى المسؤولون الروس بجد بالغ للحفاظ على مكانة «القوى العظمى» التي تمتعت بها بلادهم في وقت يشهد تحولات جيوسياسية ضخمة. ومثلما قال بوتين عام 2008، فإن «روسيا ستصبح إما قوة عظمى، أو لن تكون شيئا على الإطلاق».

لذا، فإن أوباما لديه أسباب وجيهة تدعوه للاعتقاد بأن انتهاج سياسة تقوم على البرغماتية والاحترام يمكنها تحقيق نتائج إيجابية مع موسكو. بالنسبة للكرملين، فإن الظروف العملية تقضي بأن الإبقاء على مكانة البلاد كقوة عظمى من خلال التعاون مع الولايات المتحدة أيسر منه عن طريق المواجهة. ربما لا تشترك الولايات المتحدة وروسيا في أهداف وأحلام مشتركة، لكن تربطهما مخاوف مشتركة، حيث يساور القلق كلتا الدولتين إزاء صعود الصين ويشعران بالتهديد جراء صعود الإسلام الراديكالي. (تعد روسيا الدولة الأوروبية ذات الأقلية المسلمة الأكبر، وبالتالي الأكثر عرضة للتضرر من التوجهات الإسلامية الراديكالية).

رغم نقاط ضعفها العديدة، تمتلك روسيا أيضا إمكانات استراتيجية كبرى يمكن أن تمثل أهمية حيوية لجهود واشنطن لإعادة التوازن إلى النظام العالمي.

أما المجال الذي من المحتمل أن يكون تصور البيت الأبيض تجاه روسيا خاطئا فيه فيكمن في أسلوب تفهمه للنظرة الروسية تجاه القوة الأميركية ودورها المستقبلي في العالم. وهناك أسباب تدعو للاعتقاد بأن الرئيس ديمتري ميدفيديف قرر المراهنة على نجاح أوباما، لكن روسيا ليست ميدفيديف فحسب، أو حتى بصورة أساسية. المعروف أن السياسة الخارجية الروسية متأثرة بدرجة بالغة بانهيار الاتحاد السوفياتي وما أعقبه من تداعيات. من جهتها، تميل النخب الروسية للتفكير في الولايات المتحدة اليوم عبر تشبيهات ترتبط مباشرة بالتجربة السوفياتية أواخر الثمانينات. على سبيل المثال، يميل الكثيرون داخل روسيا إلى قراءة المصاعب التي تعانيها واشنطن في أفغانستان باعتبارها إعادة لإخفاق الاحتلال السوفياتي هناك، وتقييم التداعيات السياسية لانحسار «وول ستريت» باعتبارها مشابهة لتأثير سقوط جدار برلين على النفوذ السوفياتي العالمي.

على سبيل المثال، بلغ الأمر مع إيغور بانارين، البروفسور بـ«الأكاديمية الدبلوماسية» في موسكو، مبلغا جعله يتنبأ بتفكك الولايات المتحدة خلال العقد القادم. ورغم تطرف وجهة نظره، فإنها تعكس العقلية الروسية بوجه عام. من ناحية أخرى، وفي إطار مقال له في «رشا إن غلوبال أفيرز»، كتب ألكسندر كرامارينكو، رئيس قسم شؤون التخطيط للسياسة في وزارة الخارجية الروسية، أن «الأزمة الراهنة في الولايات المتحدة تنتمي لذات الفئة الخاصة بتفكك الاتحاد السوفياتي».

الواضح أن الروس ينظرون إلى النفوذ الأميركي العالمي باعتباره في انحسار لا يمكن إيقافه، ويعتقدون أن المجتمع الأميركي تعصف به أزمات سياسية واقتصادية وأيديولوجية كبرى.

ويجري النظر إلى أوباما نفسه على نطاق واسع في روسيا باعتباره ميخائيل غورباتشوف الأميركي، لكن الروس يبدون انبهارا أقل عن شعوب أوروبية أخرى بذكاء أوباما وشعبيته الهائلة. ولا يزالون يتذكرون مشاعر الولع بغورباتشوف التي اجتاحت العالم قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي. ويميل الروس كذلك للاعتقاد بأن التوجهات الإصلاحية العالمية التي ينتهجها أوباما وأجندته التقدمية يعكسان ضعفا أميركيا، وليس تعبيرا عن استعادة واشنطن قوتها وشرعيتها.

والآن، ماذا يعنيه كل ذلك بالنسبة لسياسة «إعادة التوجيه»؟ أولا: يعني ذلك أن موسكو لن تكون في عجلة من أمرها للاستجابة للمؤشرات الإيجابية الصادرة من قبل واشنطن، وأي اعتقاد بضعف أميركا سيقضي على استعداد موسكو التعاون حتى بالمجالات ذات الاهتمام المشترك. إن قوة أوباما، وليس هيبته، هي التي بإمكانها إقناع الروس بالانضمام إلى صفه. وعليه، يتحتم على أوباما أولا أنه ليس بحاجة إليهم. ويحتاج أوباما إلى إحراز نصر واضح، سواء في حربه ضد «طالبان» في أفغانستان أو ضد الأطماع النووية الإيرانية أو تعمد بكين التقليل من قيمة عملتها. بإيجاز، يجب أن يبدي أوباما قوته كي تنجح سياسة «إعادة التوجيه» التي ينتهجها.

*رئيس «مركز الاستراتيجيات الليبرالية» في صوفيا ببلغاريا

وعضو مؤسس لـ«المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»

*خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»