أبعد من المصافحة والمصارحة: النموذج التركي الأردني

TT

الزيارة التي قام بها الرئيس التركي عبد الله غل إلى عمان بدعوة من العاهل الأردني الملك عبد الله هي زيارة غير عادية وأكثر من أن تكون تقليدية أمام حجم التحضيرات والاستعدادات التي سبقت الحدث وبأسابيع طويلة.

مواضيع الصراع العربي الإسرائيلي والحل العادل للقضية الفلسطينية على أساس اقتراحات القمم العربية التي دعت أكثر من مرة إلى اعتماد حل الدولتين ودعوة إسرائيل إلى تغيير سياساتها ومواقفها وعدم هدر الفرص السانحة والتفريط بها بمثل هذه البساطة إذا ما كانت جادة فعلا في تبني خيار السلام وموضوع أمن المنطقة، وضرورة تجنيبها أي نقاش نووي أو أزمة تحمل المزيد من التشرذم والتوتر إلى المنطقة، كانت كلها في مقدمة المسائل التي جمعت الطرفين حول بيان ختامي يعكس حجم الرغبة في التنسيق وتوطيد العلاقات ودفعها نحو الأمام. وما لفت نظر غل هنا أكثر من غيره هو أن تضم دولة بستة ملايين نسمة 23 جامعة قادرة على استيعاب مئات الآلاف من الطلاب، وهذا ما يعكس حجم الاهتمام الذي يولى إلى قطاع التعليم، مفتاح الكثير من مشكلاتنا الإقليمية كما قال الرئيس التركي.

المفاجأة الأولى جاءت من خلال جولة تفقدية قام بها الرئيس غل على مدافن شهداء الجيش التركي في مدينة السلط وقراءة الفاتحة هناك عن أرواح 300 من جنود وضباط فيلق الجيش الرابع الذين سقطوا في الحرب مع القوات البريطانية عام 1918، وهي الحقبة التي شهدت انسحابات الجيش العثماني من تلك المناطق وتراجعه نحو الأناضول. عمان وأنقرة اتفقتا على ترميم المدافن وإقامة متحف يليق بالضحايا الذين سقطوا هناك، ويساهم في الوقت نفسه في توطيد العلاقات التركية الأردنية في المكان ذاته الذي شهد تفجرها وتوترها لسنوات طويلة. على مدخل المتحف صورة للأمير عبد الله التقطت عام 1937 جنبا إلى جنب مع أتاتورك، الشخصية التي أبدى إعجابه بها أكثر من مرة. وعلى مسافة أمتار يدون غل في دفتر الزوار: «دائما سنتذكركم بوفاء، أنتم الذين دافعتم عن سمعة وطنكم وكرامته وسقطتم شهداء إبان سنوات الحرب العالمية الأولى». لا أحد يلطم ويتحسر على صفحات الماضي المؤلمة ويتطلع إلى إعادة فتحها والجلوس للمحاسبة على ما جرى، لكنّ الطرفين يؤكدان أن ما حدث لن يكون أيضا على حساب الضحايا والتنكر للتاريخ والمواقف ووقفات الأجداد.

قبل سنوات كان الكتاب الأردنيون مثل غيرهم من المتابعين في العالم العربي، يتساءلون عما إذا كانت تجربة العدالة والتنمية التركية تصلح للقياس عليها في أماكن وساحات إقليمية أخرى، داعين للتريث والدراسة والبحث قبل الإجابة على هذا السؤال، لكن الكتاب أنفسهم يتحدثون اليوم عن نجاح البلدين في تخطي حواجز الخوف والحذر والمجاملة وإطلاقهما لصفحة جديدة من العلاقات، تاركين جانبا الأماكن والأحداث التي قادت إلى إشعال الشرارة التاريخية الأولى في الانفجار قبل نحو 90 عاما.

المفاجأة الثانية في الزيارة كانت مع قرار توسيع رقعة التنقل السهل للمواطنين العرب والأتراك وتعزيز فكرة الاندماج الجمركي والتجاري من خلال إلغاء تأشيرات المرور بين البلدين بعد أسابيع قليلة على قرارات مماثلة جرى الاتفاق عليها بين أنقرة والشام وطرابلس الغرب والكثير من دول الخليج العربي، وإلحاقها بتوقيع اتفاقية التجارة الحرة وإطلاق عشرات المشاريع الإنمائية والبنى التحتية المشتركة، كمشروع توسيع رقعة الخطوط الحديدية والنقل وإمدادات الطاقة والغاز.

غل كشف النقاب لنا من الأردن عن فوائد اتفاقيات الوحدة الجمركية بين الدول والعواصم، مستشهدا باتفاقية تركيا مع الاتحاد الأوروبي في هذا المجال، الموقعة عام 1995 والتي انتقدها هو بشدة وقتها في كلمة مطولة له أمام البرلمان التركي باسم حزب الرفاه الإسلامي الذي كان يقوده نجم الدين أربكان. مثل هذه العقود قد يقلق البعض بسبب حجم التفاوت في الأرقام والمجالات بين الجانبين، لكن التجربة التركية مع الاتحاد الأوروبي هي الدرس الأكبر للعب مثل هذه الأوراق بين دول المنطقة، خصوصا أن حجم التبادل التجاري بين الأردن وتركيا لا يزيد عن 500 مليون دولار، وينبغي مضاعفته بأسرع ما يمكن كما يُجمع الطرفان.

ربما ما يستحق التوقف عنده هنا أكثر من غيره هو حديث غل حول أن الوقت قد حان لوضع أسس التعاون التجاري والجمركي الإقليمي والرغبة في تأطيره كمشروع إقليمي يقرب بعضنا إلى بعض، وإصراره على أن فرص أنقرة وعمان في لعب دور الريادة هنا بحكم علاقاتهما المميزة مع دول المنطقة كبيرة، وحافز مهم نحو تفعيل وتكريس هذه الخطوة.

* كاتب وأكاديمي تركي