كوبان من الحليب

TT

هناك ما لا يقل عن مائة آية في القرآن الكريم وكلها تدل وتدعو إلى «التسامح».

وسؤالي الذي لا يزال يشغل بالي هو:

هل قرأ هؤلاء المتشددون تلك الآيات؟!

وإذا كانوا قد قرأوها ـ وهم لا شك قد قرأوها ـ فهل استوعبوها؟!

وإذا كانوا قد استوعبوها، هل عملوا بها وطبقوها؟! لا أقول على «المِلل» الأخرى، لا، فهذا كثير عليهم ولا تستوعبها ضمائرهم. ولكن: هل عملوا بها على الأقل مع أصحاب المذاهب الأخرى من أتباع الإسلام نفسه؟!

أرجوكم لا تقولوا لي: «الله لا يشغلك بال»، فلو لم ينشغل بالي لما كتبت، ولما أخذت أجرا على ما كتبت، ولما صرفت أجري الذي أخذته على «ملذات الحياة»، وما أروعها من ملذات بريئة.

* *

في ليلة البارحة حضرت مناسبة اجتماعية، ويا ليتني ما حضرت، إذ صافحني أحدهم بحرارة، وكانت يده اليمنى مضمّخة بعطر نفاذ علق بيدي مثلما يعلق «الصمغ» الذي يلحمون به الحديد، وذهبت بعدها جريا إلى الحمام وغسلت يدي وفركتها جيدا بالصابون عل تلك الرائحة المزعجة أن تذهب من يدي ولكن من دون جدوى، فقد ذهبت كل محاولاتي عبثا.

هل تصدقون أنني أكتب الآن هذه الكلمات السخيفة في الصباح الباكر، وما زالت رائحة ذلك العطر «تحوّم كبدي»، ولو كانت لي القدرة في قطع يدي اليمنى لقطعتها ورميتها للكلاب.

أسوأ شيء في الدنيا أن يفرض عليك إنسان شيئا لا ترغبه، سواء كان فكرا أو أسلوبا أو هواية أو حتى عطرا.

وبمناسبة العطور، فإنني أهوى ما هو خفيف منها، لهذا أحب الكولونيا الليمونية، وتحديدا «4711»، و«أبخّها» على وجهي وملابسي من بعيد ولا أضعها على يدي إطلاقا احتراما لأذواق الآخرين، وازداد إعجابي بهذا الصنف من العطور عندما قرأت عن مخترعها الذي كان له من الأبناء أحد عشر؛ أربع بنات، وسبعة أولاد، أي إن رقميْ الأربعة والسبعة عندما يجمعان يؤديان إلى رقم أحد عشر.

وكتابتي هذه ما هي إلا إعلان مجاني لوكيل هذا الصنف من العطور على أمل أن يكون لديه «دم» ويعطيني هو مجانا، أو على الأقل يعمل لي «دسكاونت» 5%.

ومن أراد أن يهديني هدية فلا مانع أن تكون زجاجة من كولونيا «4711»، فأنا أقبل الهدايا عن طيب خاطر.

* *

قال لي أحدهم: كنت في مطعم ألماني، وطلبت دجاجا فأحضرت لي «الغرسونة» طلبي، وكان عبارة عن فخذ وورك الدجاجة، وحيث إنني لا أحب ذلك الجزء من الدجاجة، فقد أزحت الطبق من أمامي علامة أنني لا أريده، وبما أنني لا أعرف اللغة الألمانية، وأردت أن أخفف دمي قليلا، فقد وضعت كلتا يدي على صدري، فهزت رأسها على أساس أنها فهمت طلبي، وتفاجأت بعد قليل أن تلك «الغرسونة» الخبيثة قد أحضرت لي كوبين من الحليب.

قلت له: أكيد أن صدرها كان مشحونا ومحتقنا عليك.

[email protected]