حيرة الولايات المتحدة الأميركية!!

TT

ليس سهلا أن تكون دولة عظمى في حالة من الحيرة حول ما يجب عليها عمله، وعندما تكون هذه الدولة هي الدولة العظمى الوحيدة في الدنيا فإن الأمر يزداد صعوبة. والمسألة هي أن تعبيرات مثل «القوة العظمى الوحيدة» أو «القوتان العظميان» أيام ما كانت هناك قوة عظمى ثانية هي الاتحاد السوفياتي، أو «تعدد الأقطاب» خلال فترة ما بين الحربين، هي كلها تشير إلى نظرة هرمية للقوة وقدرات التأثير والنفوذ على مستوى كوكب الأرض. وبشكل ما فإن ذلك يمثل التنظيم الحقيقي للعلاقات الدولية، أما المنظمات الدولية، وحتى القانون والمحاكم العالمية فإنها تمثل ساحات لممارسة علاقات القوة بعد إعطائها غطاء ومسحة من القانون وأحيانا الأخلاق.

وطوال تاريخها الذي لا يتعدى بضعة قرون كانت الولايات المتحدة تعرف طريقها جيدا. فقد اختارت العزلة طوال القرن التاسع عشر خلف المحيطين الهادي والأطلنطي عندما كان «السلام البريطاني» هو المهيمن على البحار والقارات معا، وعندما قررت كسر العزلة مرة خلال الحرب العالمية الأولى كانت بداية رسم الطريق لمنع أي قوة مهما كانت من السيطرة على القارة الأوروبية. وفيما بين الحربين كانت واشنطن تعرف أنها قد باتت قوة عظمى، ولكنها انتظرت حتى جاءت الحرب العالمية الثانية لكي تعلن ذلك بوضوح كامل. وبعد الحرب كان الحديث بين واشنطن وموسكو هو الحديث الجدي في العلاقات الدولية، يتحدان أحيانا على قيام إسرائيل أو إفشال حملة السويس على مصر، ويختلفان في معظم الأحوال بعد ذلك في شكل أزمات تفرغ شحنات التناقض بين عملاقين أو صراعات يدفع ثمنها أطراف ثالثة.

وبعد انتهاء الحرب الباردة عندما سقط حائط برلين وسقط الاتحاد السوفياتي كان المثقفون الأميركيون هم من أعلنوا نهاية التاريخ؛ ولكنهم كانوا أيضا من اكتشف بعد ذلك «صراع الحضارات» الذي يعمق التاريخ الذي مضى، والتاريخ القادم أيضا.

في ذلك كله كانت أميركا، بشكل أو بآخر، تعرف طريقها، وساعدها على ذلك آلات فكرية عملاقة ممثلة في الجامعات ومراكز البحوث وجماعات للمصالح تطحن بعضها طحنا بالكتابة والكلام حتى يظهر طريق من نور تمضي وراءه أميركا كلها بعد ذلك، بحيث لا يبقى للحزبين الرئيسيين - الديمقراطي والجمهوري - إلا الخلافات حول براغماتية سياسية أو أخرى. ولكن بعد فترتين من إدارة جورج بوش، كان ما عرفته أميركا من أنها لم تكن على الطريق السليم، أو أن الطريق سليم ولكن ثمنه فادح، والأهم فإن تكلفته هائلة ولا قبل حتى للولايات المتحدة الأميركية به، أو هو هذا وذاك معا. وكان ذلك هو الحيرة بعينها حيث لا تبقى فكرة واحدة واضحة وجلية، وحتى عندما جرى التصور أن انتخاب باراك أوباما سوف يهدي أميركا إلى الطريق القويم فإن الرجل على فصاحته كان مركبا ومعقدا إلى الدرجة التي تجعل السياسة مستحيلة. وبدون السياسة بمعنى POLICY فإن الدول تبقى محتارة بين طرق لا يعرف منها من يقود إلى السلامة أو الندامة أو إلى حيث لا رجوع. والمعنى العملي لذلك هو أن أحدا لا يعلم ما إذا كان واجبا على الولايات المتحدة أن تستخدم مزيدا من القوة العسكرية أو تقلص منها، فإذا زادت فإن الكل يعرف أنه لا يوجد حل عسكري للقضايا المعلقة في أفغانستان أو العراق أو كل أماكن العنف الأخرى التي تزدحم فيها أنواع مختلفة من الأصولية في شمال اليمن أو الصومال. أما إذا قلت القوة العسكرية أو انسحبت فإن قوة عالية بلا أسنان لا تصبح قوة على الإطلاق، ولا توجد في كل الأحوال - كما قال نزار قباني ذات يوم في قضية أخرى - منطقة وسطى ما بين الجنة والنار!

وهل بعد ذلك حيرة أميركية قدر تلك التي توجد بين أميركا وحلفائها، أو شركائها، وهم كثرة بين الشرق والغرب، وكلهم عانوا كثيرا خلال فترة جورج بوش الذي عكس فكر المحافظين الجدد؛ أن أميركا عليها أن تقود وبعد ذلك يتبعها العالم؛ ولا يجب في كل الأحوال على واشنطن أن تستأذن أحدا في ما تفعل. وطالما أنها سوف تدفع فاتورة السياسة فإن من لا يدفع عليه أن يوفر فاتورة النصيحة. أيامها تبرم الحلفاء والشركاء ومن هم بين هذا وذاك، أو حتى هؤلاء الذين لا تعرف ما إذا كانوا أعداء أو خصوما أو أصدقاء، وجدوها فرصة للوم عدوانية أميركية غاشمة تريد الانفراد بالعمل بحثا عن إمبراطورية لا تغرب عنها شمس، ولا يختفي منها قمر. ولم يكن معلوما في ذلك الوقت ما إذا كان هؤلاء جميعا لديهم حلول ممكنة لإشكاليات ومعضلات العلاقات الدولية، أو أن انفراد الولايات المتحدة بالعالم أعطاهم جميعا الساتر الذي يختفون خلفه. ومضى هذا الزمن على أية حال، وجاء أوباما ومعه إعجاب أوروبي وآسيوي وعالمي في العموم لم يحصل عليه رئيس أميركي منذ جون كينيدي. ولكن الإعجاب لم يعط الرئيس الجديد أوراقا رابحة حتى بعد أن أعلن بوضوح أن الولايات المتحدة لم يعد ممكنا أن تتصرف وحدها، بل إن أحدا لا يستطيع قيادة العالم من دون تعاون مع الآخرين. ولكن ذلك لم يغير من الأمر شيئا، وعندما قرر أوباما أن يزيد عدد القوات في أفغانستان، وأن يقدم مساهمة أميركية قدرها ثلاثون ألف جندي، فإن جماعة حلف الأطلنطي كلها، بقضها وقضيضها، تمددت وتمطعت، فإذا بها لا تأتي إلا بسبعة آلاف جندي فقط لا غير يحددون وقت الرجوع إلى الديار حتى قبل الشروع في الذهاب.

الحيرة بالغة إذن حول سلوك الحلفاء والأصدقاء والشركاء، فماذا يكون الحال مع الأعداء أو الخصوم، وحتى إذا كانت أميركا قد فكرت في فك العداء والخصومة مع روسيا من خلال إلغاء مشروع الدرع الصاروخية، وتقديم تنازلات ضخمة في السعي إلى تخفيض الأسلحة الاستراتيجية، إلا أن الدلال الروسي يبدو متزايدا هذه الأيام، ولا يوجد ما يشير إلى المدى الذي تستطيع فيه موسكو أن تتعاون فيما يخص المسألة الإيرانية، أو أية مسألة أخرى. وما يصدق على روسيا ليس بعيدا كثيرا عن الصين التي تبدو متبرمة لأنها راهنت على الأميركيين كثيرا عندما حافظت على احتياطيات واسعة من العملة الأميركية قيل إنها بلغت 1.8 تريليون دولار، ولكن هؤلاء ينخفضون كل يوم وأصبحت بكين نفسها لا تعرف ما إذا كان الاقتصاد الأميركي سوف يستعيد صحته يوما ما أم أنه سوف يبقى على حاله. وما يعرفه الأميركيون أن الحيرة تزداد حتى آخرها عندما يكون الخصوم أنفسهم في حالة حيرة، حتى إنك لا تعرف أي طريق يختارون، وأي سياسة سوف يمارسون. وعلى أية حال فإن حيرة أميركا تصل إلى مداها ساعة تقرير المصير في الحرب مع أشكال مختلفة من الجهاديين. وظهر ذلك عندما عرضت الميزانية العسكرية الأميركية وقدرها 600 مليار دولار على أوباما ووجد أن فيها تطوير مقاتلة رهيبة اسمها F - 22 يبلغ ثمنها ما يكفى لإعادة الاقتصاد الأميركي إلى رشده، ولكنه ليس معلوما أبدا كيف يمكنها وهي بهذه القوة والكفاءة أن تطارد جماعة من المجاهدين في جبال تورا بورا، وبلا شك فإنها لا تملك القدرة على اصطياد بن لادن حيا أو ميتا.

حيرة أميركا مع نفسها، ومع حلفائها، وأعدائها، هي حيرة مركبة تذهب بالعقول وتزيغ الأبصار. وعندما زرت الولايات المتحدة أخيرا لم أجد كثرة لديها يقين من أي نوع إلا جماعة المحافظين الجدد الذين عادوا مرة أخرى إلى الساحة مسلحين بالحيرة الأميركية ذاتها وحاملين معهم مصابيح أيديولوجية يتمنون لو كانت تنير الطريق. وفي دول أخرى فإن معنى ذلك أن الحيرة ضربت بأطنابها إلى الحافة، فعندما تتم الاستعانة بفكر ثبت فساده توا فمعنى ذلك أن الماكينة الفكرية الأميركية قد تعطلت، أو انتابها سبات مفاجئ، أو أنها تستجمع قواها بشكل أو بآخر ولا يزال في الزمن بقية حتى يكون التقييم ممكنا بعد عام من وصول أوباما إلى البيت الأبيض!.