وداعا أحداث 2009 المريعة

TT

في توديعي للعام 2009 تذكرت إملائي توديع عام 2008 من سرير المستشفى على فاعل خير يجيد العربية.

الحمد لله أنقر الكلمات هذه المرة على متن قطار متجه إلى مقاطعة نورفولك في شرق إنجلترا تلبية لدعوة غداء من ضابط متقاعد يناهز التسعين كان خدم في الفيلق العربي مع غلوب باشا.

اللقاء ضروري لكتاب جديد أعده عن ساسة وعسكر ودبلوماسيين رسموا خريطة العلاقات العربية البريطانية. تعطل بحث مادة الكتاب لـ15 شهرا منذ إصابة العمود الفقري وسلسلة من العمليات الجراحية؛ ولا تزال الآلام تحرمني النوم وأتحملها نهارا بمساعدة المورفين وإخوتة من مسكنات -بجانب أدوية تقدم السن- التي أثرت على عيني وبالتالي على الكتابة، كما أسير بمساعدة عصا أصبحت جزءا من ملامح شخصيتي كاللحية، والقبعة (تجنبا للسعتَي البرد شتاء والشمس صيفا فوق صلعتي) و«البوبيون».

وككل عام أشارك قراء «الشرق الأوسط» المتميزين ملاحظتي الشخصية لأحداث 2009، ولا أجد لها وصفا سوى annus horribilis باللاتينية، أي السنة المريعة غير المسبوقة في كارثية أحداثها.

لعل أصعبها فقدان الأحباء كوفاة شقيقتي (التي فور اكتشافها المرض الخبيث في مطلع 2007 عجلت بإنهاء كتاب لها ثم تمكنت من تأليف كتابين آخرين رغم أربع عمليات جراحية والعلاج بالراديوم والكيماوي)، ثم تتابع وفاة خمسة أصدقاء، وخراب بيوت (بتعريفاته المصرية من طلاق وخسائر مادية فادحة).

كان 2009 عام الذعر العالمي من إنفلونزا الخنازير والمستفيد الأكبر شركات الدواء التي ربحت المليارات من اللقاح المضاد من حكومات اتخذت إجراءات مضحكة في بليّتها، رغم أن ضحايا الإنفلونزا العادية في إنجلترا سنويا يزيدون أضعاف ضحايا إنفلونزا الخنازير عالميا.

إجراءات وزارة الصحة المصرية كانت الأكثر غرابة بإعدام نصف مليون من الخنازير رغم أنها تلتقط العدوى من الإنسان وليس العكس.

ضحايا الأزمة النقدية العالمية بلغوا أضعاف ضحايا جميع أنواع الإنفلونزا. فقد ضحكت البنوك علينا وعلى الحكومات، ابتداء بحكومتنا عندما ناولها رئيس الوزراء غوردون براون ووزير المالية إليستاير دارلينغ 600 مليار جنيه (ألف مليار دولار) من ضرائب الكادحين من أمثالنا لإنقاذهم من الإفلاس.

بلعت البنوك الفلوس ومنحت الملايين «حوافز» و«عطايا» أعياد الميلاد لمديريها وضربت الناس الكادحة الغلابة على «قفاها» برفضها منح القروض الصغيرة (متوسط القرض خمسة آلاف جنيه) لأصحاب المحلات التجارية والمشروعات الصغيرة التي تحتاج إلى مرونة تعامل البنك معها عندما يصل رصيد الحساب رقم سلبي بتأخر الزبائن عن دفع الفواتير.

إمساك البنوك عن الإقراض تسبب في إفلاس الآلاف من أصحاب المتاجر والمطاعم، وبعضهم خسر داره لعجزه عن دفع الأقساط، وانتهى العام بهم في طوابير البطالة بينما يضحك القطط السِّمان من مديري البنوك.

أما رئيس الوزراء براون فيكرر ببغائية لا يضارعها مثيل بنائه سفينة نوح مالية في شكل هيئة أنشأها لإقراض المشروعات الصغيرة، ولم تقرض سوي مائتين بينما شهر أكثر من سبعين ألفا إفلاسهم.

الأزمة العالمية كانت طوف نجاة للمفوضية المركزية للاتحاد الأوروبي، وهي غير منتخبة من الشعوب أي غير ممثلة وغير خاضعة للمحاسبة الشعبية كما هو حال الحكومات المنتخبة ديموقراطيا. المفوضية وظفت الأزمة لابتزاز الناخبين في الجمهورية الأيرلندية - وكانوا صوتوا في العام الماضي برفض الدستور الأوروبي المعاد تغليفه كمعاهدة لشبونة - بتدلية مشروعات مالية لإنقاذ اقتصادهم من الإفلاس أمام أعينهم الجائعة في حملة دعاية تكلفت 22 مليون يورو من ضرائب العاملين الذين لا يسمع أحد أصواتهم.

وصوّت الأيرلنديون بقبول معاهدة سلبت بلادهم سيادتها القومية، مقابل حفنة يوروهات.

وسيذكر المؤرخون 2009 بأنه عام «العقيدة» الجديدة للساسة، أي البيئة، وأقصد بها الخدعة الكبرى، التي باعها الإعلام اليساري بزعامة «البي بي سي» للعالم، بأن النشاط الإنساني (وبالتحديد أي نشاط يتعلق بالعولمة أو الرأسمالية) هو وحده المسؤول عن ظاهرة الاحتباس الحراري. واقنعوا الساسة -أو الطبقة المتوسطة التي تتمكن من تغيير قناعة الساسة- بأن من ينكر التفسير اليساري للظاهرة هو شيطان رجيم يستحق أن يعلق من أظافر أصابع القدم في ميدان «السيدة بيئة».

وكان مهرجان كوبنهاغن الذي سكب آلاف المجتمعين فيه بتنقلاتهم الأطنان من أكاسيد الكربون على معبودتهم «بيئة» دون أن يتفقوا على خطوات قابلة للتطبيق، سوى فرض المزيد من الضرائب لحماية البيئة. انتهى مولد كوبنهاغن بأغرب وأقصر المؤتمرات الصحافية للرئيس الأميركي باراك أوباما مكتفيا بدعوة مراسلي البيت الأبيض المرافقين له دون غيرهم، وإسراعه بالرحيل إلى بلاده حيث بلغت شعبيته أدنى مستوى لرئيس أميركي في التاريخ، بعد أن كانت الأعلى وطنيا وعالميا في مطلع العام.

أما الرئيس الإيطالي سيلفيو برلسكوني فكان عامه أبعد ما يكون عن الملل، ليس فقط بزلات لسانه، بل وبفضائح دفعت زوجته إلى رفع قضية طلاق بسبب علاقته بفتاة عمرها 18 تناديه بـ«بابا» وادعاء عدد من بائعات الهوى قضاء الليالي الحمراء في فيلته المعزولة، وتسجيل إحداهن الوقت الممتع معه في غرفته وإثنائها على فحولته.

الغانية أصبحت من المشاهير بتأليف كتاب عن مغامراتها مع الرئيس الإيطالي وتحولها إلى مضيفة برنامج تلفزيوني.

ولم تنخفض شعبية بيرلسكوني مثلما توقع المراقبون، بل تضاعفت بعد أن لطمه رجل مختل عقليا فأطاح باثنتين من أسنانه وكسر أنفه، وانتهى العام ببرلسكوني الجريح مرفوع الرأس وأكثر زعماء أوروبا شعبية.

وقد لا يتفوق على الرئيس الإيطالي في الأقوال والأفعال التي يسيل لها لعاب الصحافيين سوى نظيره الليبي الكولونيل معمر القذافي الذي اختارته مواقع الأزياء أكثر زعماء العالم تنوعا وتلوينا بل وابتكارا للأزياء.

وإلى جانب تحطيمه الأرقام السياسية في طول الخطب في افتتاح دورة الأمم المتحدة في الخريف، إذ كان خطابه الأطول والأصعب فهما لدرجة عجز المترجمين الفوريين عن متابعه أفكاره، فكان زيه أيضا غير متوقع. ما يشبه «بطانية» ظل يلقيها على كتفه اليسرى، لتكرر انزلاقها، ربما من قوة الخطاب.

مواقع الموضة سجلت للكولونيل القذافي تفوقه، عددا وغرابة في الأزياء على المرحوم مايكل جاكسون الذي رحل هذا العام ضحية مسكنات الآلام (وربنا يستر في حالتنا)، باهرا المصورين عند حضوره المؤتمرات.

وهو الكولونيل الوحيد في التاريخ الذي أضاف على صدر بذلته العسكرية صورة بطل شعبي (عمر المختار الذي حارب الإيطاليين) إلى أوسمة نجهل بطولات تأهيله للحصول عليها.

المؤكد أن ترزي الزعيم الليبي يستحق وسام أوسع خياطي العالم خيالا وإبداعا في عام 2009 الذي أرجو أن لا تتكرر أحداثه في حياتي مرة أخرى.