احتلال بئر الفكة.. الاستفزاز ورد الفعل

TT

رغم تضارب المعلومات حول ما حصل ويحصل في منطقة الفكة كما عدم اتفاق التحليلات حول طبيعة التحرك الإيراني ومغزاه، يمكن القول ببساطة إنه أيا كانت الأرباح التي يعتقد الإيرانيون فإنهم يحققونها عبر فرض أمر واقع عسكري على منطقة حتى لو اختلف على حدودها فإنها عرفا وقانونا جزء من الأراضي العراقية، فإن الخسارة بالنسبة إلى الإيرانيين أكبر. ليس جديدا على النظام الإيراني بطاقمه القيادي الحالي أن يرتكب ممارسات تؤدي إلى مزيد من التدهور في سمعته الإقليمية والدولية، وإلى تحدي الآخرين في معارك ليس لها علاقة جوهرية بحاجات المواطن الإيراني وبمستقبله، لكن الجديد هو أن إيران المتهمة بنسج شبكة تحالفات مع دول وقوى وحركات سياسية إقليمية تقوم بأعمال تُضعِف من تحالفاتها. وبعبارة أوضح، إذا كان الإيرانيون يعتقدون أن وجود حكومة في العراق صديقة لهم أو في أقل تقدير غير معادية هو مصلحة استراتيجية، فإن دفع بعض أصدقائها إلى اتخاذ موقف غير ودي وإحراج البعض الآخر في موسم انتخابي يكاد الدور الإيراني في العراق يتحول إلى أهم محاوره، إنما يمثل قراءة غير حصيفة للمشهد.

إن الاحتياطي النفطي للبئر رقم 4 التي احتلتها إيران لا يتعدى مليون ونصف مليون برميل أي أقل من صادرات يوم واحد من النفط العراقي وبالتالي فإن تصور أن تكون البئر ذاتها ذات جدوى اقتصادية عالية سال لها لعاب الإيرانيين لا يبدو تصورا صحيحا، وربما ليس أمامنا إلا أن نقرأ الحدث من زوايا تحليلية محدودة أبرزها أن الحكومة الإيرانية تعيش ارتباكا ناتجا عن الضغط السياسي الداخلي الذي بات يتجاوز مجرد الاحتجاجات على نتائج الانتخابات إلى حركة سياسية وشعبية تتبلور ملامحها تدريجيا وتتخذ مسارا باتجاه معارضة فلسفة النظام السياسية إن لم يكن بنيته، والإيرانيون أيضا لم يحصلوا على ما كانوا يتوقعونه من عروض غربية وأميركية في مفاوضات الملف النووي، وهذان العاملان يسهّلان خلق مزاج مُواتٍ لاستعراض القوة خارجيا إما بدافع استفزاز الطرف الآخر الذي تبدو نقطة ضعفه الرئيسية هي عدم جاهزيته للمعركة، وإما بتعزيز موقعها التفاوضي في كل ملف محتمل. ربما يستشعر الإيرانيون أنهم بدأوا يفقدون تدريجيا بعض عناصر قوتهم في العراق وأن الانتخابات قد تفرز طبقة سياسية أقل صداقة وأن أطرافا أخرى بدأت تعزز من نفوذها في العراق، وهم لذلك يريدون الاستعداد لمرحلة من التعامل الندّي مع العراق الذي تُعتبر معركة الحدود أحد أهم عناصره خصوصا أن الأحداث الأخيرة تزامنت مع عودة بعض المسؤولين الإيرانيين للمطالبة بتعويضات عن حربهم مع العراق. وربما كان لجولة التراخيص النفطية الثانية في العراق وما أفرزته من عقود واعدة والتزام من شركات نفطية عالمية مثل «توتال» و«بريتش بتروليوم» و«أوكسون موبيل» و«شيل» و«لوك أويل»، وما أعلنته هذه الشركات من التزام بالصعود بحجم الإنتاج العراقي خلال السنوات الست القادمة إلى 12 مليون برميل، قد أثار أكثر من طرف إقليمي ممن لا يجد مصلحة له في مثل هذا التطور، وقد رأينا في الأيام الأخيرة بعض الهجمات على الأنابيب النفطية، كما أن بعض السياسيين صعّدوا من حملاتهم على العقود بغرض إلغائها ربما خدمة لأجندات معينة، ويبدو أن الإيرانيين بدورهم يريدون إيصال رسالة ما إلى هذه الشركات عبر تحركهم هذا.

أما إذا صحت حجة الإيرانيين في أنه كان مجرد تصرف معزول ومرتبط بقضايا إدارية وتقنية بحتة وأن الإعلام قد ضخمه، فإن هذه الحجة تستلزم أولا سلوكا واضحا وجذريا لإبطال هذا التصرف وإحراج الإعلام، دون أن يغير ذلك من حقيقة أنه تصرف قدم خدمة كبرى لمن يريدون التعبئة ضد إيران، وأضر كثيرا بوضع ومصداقية أطراف أخرى كانت تتصدى لمثل هذه التعبئة.

إن العراق يشهد حاليا بدايات لأشرس صراع انتخابي تتداخل فيه الملفات الداخلية مع الإقليمية والدولية بشكل غير مسبوق، وبالتالي فإن أي فعل من الخارج تجاه الداخل سيدخل في إطار الصراع الانتخابي وسيستخدم في معركة الدعاية والتسقيط الجارية، وقد لحظنا أن الأطراف التي استغلت احتلال الفكة للتعبئة والتهديد والوعيد هي نفس الأطراف التي دافعت عن سورية عند اتهامها من قِبل الحكومة العراقية بالضلوع في التفجيرات الأخيرة.

إن الوطنية التي تدّعيها القوى السياسية العراقية هي وطنية عوراء تقف بوجه تدخل إقليمي معين وتبرر أو تغطي على تدخل آخر، أما الشارع العراقي فيبدو أكثر تقدما على طبقته السياسية بمسافات بعيدة فهو لم يقصر عن إدانة أي من قوى الجوار التي تتدخل في شأنه وتتساوى عنده قيمة دماء المئات من الضحايا الذين أسقطهم الإرهاب مع قيمة بئر النفط العراقية.

أما الحديث عن «قادسيات» جديدة وترديد أناشيد الدماء القديمة فهي تعبئة غريزية لن نحصد إذا تبعناها سوى المزيد من المآسي والنكبات للمواطنين البسطاء الذي دفعوا ولا يزالون يدفعون ثمن المغامرات اللا عقلانية للنظام السابق، وفي مقدمتها الحرب مع إيران التي لو لم يكن النظام قد ارتكب أي جريمة غيرها لكانت كافية لمحاسبته لو كنا نعيش في مرحلة لا تعاني من اختلال القيم والمعايير كالمرحلة الراهنة. لقد أدت تلك الحرب إلى تدمير الاقتصاد العراقي وتحويل العراق إلى دولة مدينة بمليارات الدولار وإلى تفكيك بنية المجتمع العراقي ودخول ظواهر السرقة والرشوة وتحويل العنف إلى ممارسة اجتماعية مقبولة وتدمير الطبقة الوسطى فضلا عن الأكلاف البشرية الهائلة. لقد بدأت الحرب بإعلان النظام تمزيق اتفاقية الجزائر عام 1980، وانتهت كملف سياسي عام 1990 بإعلان النظام موافقته على العودة إلى اتفاقية الجزائر وإقراره كل الشروط الإيرانية مختومة بجملة: «وكأن شيئا لم يكن»!

لذا فإن الاستشهاد بالنظام السابق مع نزقه ومآسيه وكأنه أعطى العراق منعة هو ليس فقط مراهنة على أن الذاكرة مثقوبة، بل للنَّيل ضمنا من التغيير وللتعريض بالقوى السياسية الأساسية بوضعها في زاوية التشكيك والتفريط، إنها فرصة وفرها هذا الفعل.