الخروج العربي من حالة «اللاسياسة»

TT

أخطر وضع سياسي تواجهه الدول هو وضع اللاسياسة. أحيانا عبر الجمود، وأحيانا عبر اللامبالاة، وأحيانا عبر الحيرة والعجز. فالسياسة ضرورة وليست مجرد موقف. ضرورة أحيانا للترويج لما تريده الدول. وأحيانا لصد هجوم سياسات معادية. وأحيانا لبناء تحالفات تحتاجها مرحلة مؤقتة أو تاريخية.

وانطلاقا من هذا الاعتبار لأهمية السياسة، لا نستطيع إلا أن نلحظ حالة اللاسياسة التي تعيشها المنطقة العربية. هذا لا يعني أن دولنا لا تتحرك، ولا تعمل، ولا تتصل، ولا تزور، ولا تزار. كل هذا قائم وموجود. ولكن النشاط وحده لا يعني السياسة. السياسة تقدير موقف، وتحديد أخطار، ورسم خطط، وبناء تحالفات على أساس كل ذلك، وهذا كله غائب عن حياتنا السياسية العربية.

لنأخذ أولا الأمور المباشرة المحددة، كإشارات وعلامات على حالة اللاسياسة العربية:

الوضع الذي تواجهه اليمن، سواء على صعيد ظاهرة الحوثيين، أو على صعيد ما يسمى بالحراك الجنوبي، وهو حراك له جوانب متعددة، ومن تلك الجوانب المتعددة، الدعوات للانفصال، واحتمالات الانفصال.

الوضع الذي يواجهه السودان، سواء على صعيد ما يجري في جنوب السودان، والذي يكاد يقترب من الانفصال. أو على صعيد أحداث دارفور، إن لم نقل حروب دارفور. وكلاهما: أحداث الجنوب وأحداث دارفور، يشكلان مساسا بأكبر دولة عربية هي مصر، ويشكلان تهديدا لأمنها القومي، أقله عبر مصير نهر النيل والسياسات الدولية من حوله.

الوضع الذي تواجهه القضية الفلسطينية، حيث الانقسام الفلسطيني، وحيث العجز العربي عن إدارة مصالحة ناجحة. حيث للمصالحة الناجحة شروطها السياسية التي غابت كليا عن ورقة المصالحة المصرية، رغم عام ونصف العام من الإشراف على الحوار.

الوضع الكردي في العراق، والذي يكاد يقترب من درجة الانفصال، أو درجة الحرب الأهلية في مواجهة نوايا الانفصال، وما ينطوي عليه هذا الوضع من تحالف كردي - إسرائيلي، ناهيك عن التحالف الكردي - الأميركي، الذي سيوجد حين يتطور وضعا حرجا لكثير من الدول العربية المجاورة للأكراد، وكذلك لدول أخرى غير عربية.

كل هذه أمور محددة، وحارة، وخطرة، تجري حولنا من دون أن تكون هناك لا سياسة مصرية، ولا سياسة يمنية، ولا سياسة «عربية»، تنظر في هذه القضايا وتدرسها، وترسم خططا متوافقا عليها من أجل مواجهتها. ولولا ندوة تلفزيونية ساهم فيها وزير خارجية البحرين، لما كنا سمعنا دعوة لمواقف عربية تتحدث عن أهمية اليمن، وأهمية دعمه ليواجه المشاكل التي تعترضه.

لقد كانت مصر عبر سنوات طويلة، صاحبة كلمة عليا في أفريقيا كلها. ولكن الأمور جرت وتفاعلت وتطورت في دارفور مثلا، وهي جالسة تراقب عن بعد. وذهبت جيوش أفريقية إلى هناك، بينما مصر المعنية أكثر من غيرها بأحداث السودان، لا تفعل ما يرقى إلى مستوى قدرتها على الفعل، كما كان شأنها في السابق.

وإذا كانت السعودية قد خرجت للمرة الأولى، دفاعا عن نفسها، بعد اعتداءات الحوثيين وتسللاتهم، إلا أن الحرب ليست هي السياسة. فالسياسة هي التي تقول ماذا سيكون عليه الوضع بعد الحرب. وهذا ليس تدخلا في شؤون اليمن. ولكن من قال إن ما يجري في اليمن ليس أمرا سعوديا بالمعنى العميق للكلمة؟ ومن قال إنه ليست هناك حاجة الآن لحوار سعودي - يمني يبحث في السياسة بالعمق، ويرسم خطط المخرج، وخطط المستقبل؟ وربما تكون اليمن هي أكثر من يسعى إلى دور سعودي من هذا النوع، وإلى دور عربي آخر من هذا النوع أيضا. فاليمن لا يستطيع أن يواجه مشكلات داخلية، تقف خلفها تدخلات خارجية، من دون أن تسانده قوى عربية، بسياسات واضحة ومعلنة.

هذه المشكلات كلها، يتم التعامل معها حتى الآن، بشكل آني، تبادر إليه هذه الدولة أو تلك، وتعلن بشأنه هذا الموقف أو ذاك، ولكن الأمور حين تبدأ، وتتحرك، وتتراكم، وتتجمع، تصبح بحاجة إلى ما هو أكثر من المواقف الآنية، تصبح بحاجة إلى سياسات تبنى على رؤى استراتيجية، وتصبح بحاجة إلى التحالفات، تحالفات عربية، تحالفات توافقنا طويلا على تسميتها بـ«التضامن العربي». وهنا نستطيع أن نقول بكل أسف، إن الرؤى الاستراتيجية العربية شبه غائبة عن حياتنا السياسية. والتضامن العربي الذي يفترض قيامه بناء عليها أصبح غائبا هو أيضا، وهذا في النهاية وضع عربي خطر للغاية، خطر على العرب جميعا، وخطر على كل دولة عربية على حدة.

نقول هذا ونحن نشاهد من حولنا أن الآخرين يتحركون، إذ لا يمكن للقوى الإقليمية أن ترى المشكلات تتراكم من حولها من دون أن تتحرك، إما لكي تملأ (أو تستغل) الفراغ الناجم عن غياب السياسة العربية، وإما لكي تحقق مصالح لنفسها حسب رؤاها وتصوراتها للمرحلة وشؤونها. ونحن نشاهد تحرك إيران كدولة إقليمية. ونحن نشاهد تحرك تركيا كدولة إقليمية. ونحن نشاهد تحرك سورية باتجاه إيران وتركيا، بعد أن عز وجود تضامن عربي يحتضنها. وقد تطورت الأمور باتجاه قيام تلاق إقليمي، يجتهد ويحاول أن يملأ الفراغ. وهنا لا نستطيع أن نتجاهل مغزى الحدث الذي شهدته دمشق قبل أيام، من خلال اجتماع (مجلس التعاون الاستراتيجي) السوري - التركي، وبحضور رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي، ونتائجه السياسية والاقتصادية.

لا تمثل سورية هنا انفرادا عن العرب باتجاه التعاون مع الآخرين، ومن المؤكد أنها كانت تفضل لو أن هذا اللقاء الإقليمي يكون عربيا - إيرانيا - تركيا، ويمثل الحضور العربي فيه لقاء سياسيا استراتيجيا، آنذاك سيكون وضع سورية داخل هذا اللقاء أقوى وأفعل، ولكن ما دام هذا الحضور العربي الشامل غائبا، فإن سورية بحضورها تحاول أن تسد نقصا بقدر ما تستطيع.

ومن المؤكد أن إيران تستفيد من هذا التلاقي الثلاثي، ومن المؤكد أيضا أن تركيا تستفيد. ولكن الحضور العربي، الحضور بذاته، والحضور العربي مع سورية وحولها، من شأنه أن يأخذ من هذا اللقاء إيجابياته، ومن شأنه أيضا أن يصد بعض سلبيات تنشأ من نشاط هذه الدول، حسب مصالحها، أو حسب اجتهاداتها.

وإذا كان مثل هذا الدور العربي الفاعل في الإطار الإقليمي قد تأخر حتى الآن، فإن الوقت لم يفت بعد. ولكن الوصول إلى لحظة الفعل يقتضي من كل دولة عربية أن تتخلص من «حالة الاستنكاف» السياسي التي تمارسها، حتى حين تكون المشاكل قد اقتربت من مصالحها ومن حدودها. وبعد التخلص من «حالة الاستنكاف»، تقترب الدول من حالة رسم سياساتها الاستراتيجية انطلاقا من مصالحها، وحين تتواجد الرؤى الاستراتيجية يتم التوجه تلقائيا وبالضرورة نحو التضامن العربي، ونحو الموقف العربي الموحد الذي يفرض آنئذ نفسه على كل تلاق إقليمي في منطقتنا، ويكون الوجود العربي داخل هذا التلاقي الإقليمي مؤثرا في رسم توجهاته، وفي حجب سلبياته عن المنطقة العربية كلها، وعن كل دولة عربية على حدة.

الدول العربية الأساسية والفاعلة هي التي تستطيع أن تلعب هذا الدور التاريخي. أما الدول الأصغر فهي لا تستطيع أن تبادر، ولكنها تستطيع أن تساهم.

والكل الآن بانتظار الدولة العربية التي ترفع الراية.

وآنئذ.. سيتم تعديل سياسات خاطئة، حتى من دون أن يطلب أحد من هذه الدولة أو تلك أن تعدل في سياساتها الخاطئة.