خير الجوائز

TT

كنت قد كتبت وقلت إن أحوال المراحيض العامة تعطينا أحسن مقياس لتطور الأمم ومستوى تمدنها. تذكرت كل ذلك وأنا أشعر بالحاجة لقضاء الحاجة في شارع الصحافة البريطانية، فليت ستريت. وهو أمر يثير بعض التأمل والتفكير. لماذا تحركت (مصاريني) وقرقرت في شاع الصحافة؟ ألهذا الحد أصبح القرف مما تقوله الصحف؟

قصدت المرافق الصحية لهذا الشارع فلفتت نظري لوحة مخطوط عليها تقول إن هذه المراحيض نالت جائزة وستمنستر الأولى للمراحيض لعام 2009. قلت يا سلام! أصبحت للمراحيض أيضا جوائز! لن أعجب إذا ما سمعت أنهم أصبحوا يعطون جوائز أيضا للبول والغائط. وهو ما يذكرني بالجندي العراقي الذي عانى من الإمساك. جلس في المرحاض لساعات دون أن يستطيع تفريغ بطنه. خرج يائسا ونظر في المرحاض المجاور وما فرغه فيه جندي آخر فقال: «آه! هذي أحطها على راسي».

فكرت في الأمر، من يدريني؟ ربما سمعت عن قريب عن جائزة نوبل تعطى لأحسن المراحيض في العالم. ولم لا؟ لقد أعطوا جوائز نوبل للسلام لمن لم يفعل أي شيء للسلام. الرئيس أوباما اعترف بلسانه بذلك عند استلامه للجائزة. وقبله، أعطوها لمناحيم بيغن، إرهابي معروف صدر بحقه إلقاء قبض من المحاكم البريطانية في الأربعينات لما قام به من أعمال إرهابية. أعتقد أنه قد آن الأوان للنرويج أن تخصص جوائز نوبل للنزاحين والمرحاضجية. أنا شخصيا أعتقد أن جائزة للمراحيض أجدر بكل هذا الجوائز مما نعطيه للشعر والرواية. كلنا نستعمل المراحيض، ولكن كم منا يقرأ روايات أو يسمع الشعراء؟

دخلت هذه المراحيض الحائزة على جائزة عام 2009 للمراحيض. ما الذي كان فيها وأهّلها لشرف هذه الجائزة المرموقة التي يتهالك عليها كل منظفي المراحيض ومأموري البلدية ونزاحي السبته تنك؟ وجدت فيها الجناح المعتاد للرجال والجناح المعتاد للسيدات وجناحا خاصا لتغيير حضائن الأطفال، وجناحا للاستحمام. ولكنني لم أجد فيها جناحا مختلطا للرجال والسيدات، وهو مما سمعت أن بعض الدول الأوروبية المتقدمة في الحضارة أخذت تجهزه وتوفره للجمهور.

مراحيض فليت ستريت مكان جدير بزيارة كل السياح وزائري العاصمة البريطانية والوفود الرسمية والهيئات الدبلوماسية. إنه أحسن دون شك من قضاء وقتهم في كازينوهات القمار والنوادي الليلية والمطاعم اللبنانية. ولا أدري كيف تغافلت مؤسسة السياحة البريطانية عن ضم هذا المكان إلى قوائم الأماكن السياحية الجديرة بالزيارة. «زوروا مراحيض فليت ستريت لتروا كل ما يسركم»!

وقد أحسنت بلدية لندن دون شك في اختيار هذا المكان الاستراتيجي لتجهيز هذه المرافق الصحية الممتازة، مرافق خمسة نجوم. فأمام هذه المرافق يوجد مبنى المحاكم البريطانية. وما أحوج مراجعيها للمراحيض من مديري البنوك والشركات ومهربي الأموال الحرام ومزوري الوثائق والشهادات ومختلسي أموال الدولة، وهم ينتظرون الحكم عليهم، و«مصارينهم» تتلوى قلقا ومثانتهم تتفجر رعبا وحسبانا. وهو ما أعتقد أن كل دور القضاء في حاجة إليه: مراحيض لزبائنها ينفهون فيها عن «مصارينهم»، ودور عبادة يستغفرون فيها ربهم عما جنته أيديهم.