اهتراء المعصومية يثير قلق «عرب» إيران

TT

في 11 فبراير المقبل، تكون قد مضت ثلاثون سنة على تربع رجال الدين على بساط السلطة والحكم في إيران. خلال هذه الحياة الطويلة نسبيا، اقتصرت المعارضة على الاحتجاج على أسلوب النظام: فشله في مصالحة المذهب الشيعي مع العصر. فشله في التوفيق بين الإيمان والحرية. فشله في الاستجابة لطموح وآمال الأجيال الشبابية.

إيران اليوم أمام حالة جديدة مختلفة تماما. انتقلت المعارضة من الاحتجاج على الأسلوب، إلى التمرد على الشكل والمضمون. هناك رفض واسع لآيديولوجيا النظام الثيوقراطي (حكم رجال الدين). هناك عدم قبول لقداسة النظام الديني القائمة على معصومية الفقيه (علي خامنه ئي).

هناك حالة عدم تصديق لغيبية وكيله الأرضي (محمود أحمدي نجاد) الذي يقول إنه يمهّد الزمان والمكان لعودة الإمام الغائب (المهدي المنتظر).

سواء كانت متقدمة أو متخلفة، فالخميني صنع ثورة. أسقط نظاما. لكي يحكم، نبش من تابوت التاريخ نظرية غيبية راسخة في جذور المذهب الجعفري، نظرية «المهدي المنتظر» التي توازي نظرية ظهور «المخلّص» المنتظر في المسيحية واليهودية. لا خلاف عند الشيعة على انتظار «غودو».

لكن لأن الانتظار طال، وقد يطول، فالخلاف يدور حول مهمة الفقيه نائب الإمام. الفقيه شخصية كهنوتية شبه قداسية، شبيهة ببابا الفاتيكان.

الخميني تَقمّص هذه الشخصية. سيّسها. بات الفقيه يملك ويحكم، مُضفِيًا على نفسه ونظامه شرعية «قداسية» مستمدة من «شرعية» المهدي المنتظر. شرعية الفقيه معصومة عن ارتكاب الخطأ. بالتالي، معصومة عن النقد والاعتراض والرفض. القبول المتردد، لدى علماء المذهب، بإحياء منصب الفقيه - ربما مراعاة للخميني - رافقه اعتراض واسع وحاسم على تسييس الفقيه، وتمليكه وتحكيمه في رقاب الناس.

للأمانة، أقول إن رجال الدين الشيعة سبقوا الحركة الإصلاحية الراهنة بنحو ربع قرن، في هذا الاعتراض على معصومية الفقيه المسيَّسة، بدءا بـ«آية الله» الراحل حسين منتظري، مرورا بآية الله علي السيستاني، وصولا إلى «آية الله» اللبناني محمد حسين فضل الله، الذي ربما أعفاه حزب الله من الزعامة الروحية له.

بعد خلعه منتظري عن ولاية العهد، عَجَمَ الخميني عيدانه. فوجد «المجتهد» علي خامنه ئي أقلها علما. أخلصها ولاءً وطاعةً. أسعدها حظا في النجاة (بإعاقة خفيفة في اليد) من حرب الاستئصال، بين الخميني وحركة «مجاهدي خلق».

وهكذا، غدا خامنه ئي بمثابة شاه وخميني. فقيه وارث. غير منتخب شعبيا وديمقراطيا. فقيه معصوم يملك. يسيطر على المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية. في انتظار ظهور صاحب المكان والزمان، نجا نائبه الفقيه بنجاح من «ثعالبية» رفسنجاني. من شعبية خاتمي. وها هو يواجه اليوم تمرد حركة إصلاحية، يتزعمها خصمه العنيد ورئيس وزرائه السابق حسين موسوي. تمرد لا يرفض نظام خامنه ئي، إنما أيضا «معصوميته» القداسية.

أترك هنا للقارئ متابعة تفاصيل الأحداث الإيرانية اليوم. إنما أكتفي بالقول إن هذه المعارضة الرافضة تضم النخبة الواعية. المثقفين. الطلبة. المرأة. أجيال المدن الشبابية. ثم علماء الدين الذين انشقوا عن النظام، كخاتمي. كروبي. رفسنجاني وتلامذتهم وجمهورهم. في أي نظام ديني أو علماني، فهذه النخبة كافية لمنعه من التنفس تحت صفيح السلطة الهش.

تقابل هؤلاء جميعا الطبقة الريفية الفقيرة، المتخلفة في وعيها. النظام يجندها في ذراعه العسكرية (الحرس الثوري) ويحشو ميليشياه الشارعية (الباسيج) بأفرادها. هذه الذراع انتفخت عضلاتها. تورّمت مؤسساتها الداخلية. امتدت أجهزتها الخارجية، بحيث باتت طبقة إدارية مدنية وعسكرية، تنافس خامنه ئي، إن لم تكن قد استوعبته وأخافته.

اهتراء نظام المعصومية لا بد أنه يثير قلق «عرب» إيران ومخاوفهم. التقارير الديبلوماسية والأمنية التي تتلقاها دمشق وبيروت تشير إلى أن النظام يملك قوة القمع والردع. لكن لم يعد يملك سلطة المنع.

التمرد ليس احتجاجا عابرا. الصدام سيستمر. هناك حالة «استدماء» في الشارع الإيراني. التزوير الفاضح في انتخابات التجديد للوكيل الأرضي (نجاد) فجر الرفض لمعصومية خامنه ئي، وصولا إلى إحراق صوره وصور الخميني علنا في الشراع.

قلق ومخاوف «عرب» إيران تنعكس ببوادر انسحاب تدريجي بطيء من نظام المعصومية الإيراني. هذا الانسحاب غير المنظور يمكن رصده بعدة شواهد ودلائل. في الوثيقة (المانيفستو) السياسية التي أذاعها حسن حزب الله أخيرا، تبدو محاولة لبننة الحزب واضحة. لم يعد هناك تباهٍ متفاخر بالولاء لمعصومية الفقيه الإيراني. هناك تركيز أكثر على هوية الحزب «اللبنانية»، من خلال الإسهاب في الحديث عن مشروع إلغاء الطائفية السياسية والتمسك بـ «الديمقراطية التوافقية» وحكومة الوحدة الوطنية.

مظاهر القلق السوري من تآكل معصومية النظام الإيراني واستقراره، تنعكس عمليا بمصالحة السعودية. تعزيز الود مع الأردن. الغزل مع إدارة أوباما. مهادنة لبنان. استضافة سعد الحريري رئيس الحكومة اللبنانية. إبداء الرغبة في استئناف المفاوضات مع إسرائيل. التقارب مع تركيا «كبديل احتياط» يتقدم كل بوادر «الانسحاب» من إيران. في غيبة العراق، وعدم استقرار إيران، غدت تركيا العمق الاستراتيجي لسورية: الإلغاء المتبادل لتأشيرة الدخول. التنسيق الأمني. توقيع 51 اتفاقية وبرتوكولا خلال زيارة رجب طيب أردوغان الأخيرة لدمشق. كل ذلك في غمرة ذهول وصمت إيرانيَّين.

ماذا عن عرب إيران الفلسطينيين؟ السعودية تنصح خالد مشعل خلال زيارته للرياض، بالإسراع في المصالحة مع فتح والسلطة الفلسطينية، وتشكيل حكومة وحدة وطنية. حقا. المصالحة والحكومة هما السبيل الوحيد لإنهاء حصار غزة. بعد عودة مشعل من إيران، تعثرت مفاوضات الإفراج عن الأسرى. تم تسيير جورج غالوي في تظاهرة داخل شاحنة غذائية جوّالة. نظمت حماس تظاهرة «أوروبية» في قلب القاهرة. مع ذلك، ليس كل ما تفعله حماس غزة مرضيا لمشعل وطهران: الهدنة مستمرة مع إسرائيل. حماس تمنع حلفاء إيران «المجاهدين» من إطلاق الصواريخ.

على أية حال، الامتحان الحقيقي لقياس الابتعاد والاقتراب من إيران قد يأتي، إذا ما تعرضت إيران لهجوم جوي غربي أو إسرائيلي. هل يقصف الحزب وحماس إسرائيل، فورا ومباشرة، بالصواريخ؟ أم يتجنبان التورط في حرب لا مصلحة للعرب في خوض غمارها؟

حتى النظام الشيعي في العراق القريب من إيران لم يسكت. احتجّ دبلوماسيا وإعلاميا على احتلال إيران حقل فكة النفطي. بعد الصراخ العراقي، سارعت إيران إلى لفلفة الخطأ والفضيحة بالانسحاب. لكنها تلح للتفاوض على ترسيم الحدود، في وقت يبدو العراق ضعيفا. غير قادر على حماية حقوقه وحدوده. بل تستحي حكومة بغداد من محاسبة إيران على العبث بالبيئة العراقية، من خلال قطع أو تغيير مجاري الأنهار الرافدة لدجلة وشط العرب.

وبعد، ماذا أقول؟ إيران، في قوتها وضعفها، هَمّ للعرب كبير. لا هم استراحوا من حلم العظمة الشاهنشاهي. وها هم تعرضوا للاختراق والتمزيق، في حلم اليقظة الذي راود النظام المعصوم. على كل حال، لا ضرورة لتفاؤل العرب بالحركة الإصلاحية. ففي طيات أجنحتها، مَن هم على استعداد لاستفزاز العرب، كرهًا لهم، أكثر مما يفعل جناح نجاد.