كتاب مرعب!

TT

مع صدور الحكم «المريب» بتبرئة خمسة من جنود شركة «بلاك ووتر» الأميركية من تهمة الاغتيال، وهي الجريمة التي أكد على حدوثها وكان لها أكثر من شاهد عيان بحق المتهمين، كنت أقرأ وبنهم قصة رعب لا تنتمي إلى روايات الخوف والذعر التي اشتهر بتأليفها ستيفن كنغ، ولا هي من ضمن روايات مصاصي الدماء التي ذاع صيتها وانتشرت مؤخرا، ولكنها كانت بعنوان «بلاك ووتر: قصة صعود أقوى جيش في العالم» بقلم جيريمي شاهيل، وهو مراسل لمجلة «ذا نيشون»، أميركي يقطن نيويورك، والكتاب نفسه من ضمن الكتب الأكثر مبيعا في العالم ونال جائزة جورج بولك للكتاب وحظي بمراجعات لافتة ومديح محترم يشيد بالنهج البحثي للمؤلف.

الكتاب أقل ما يقال عنه أنه مفزع ومدعاة للقلق لأنه يكشف حجم القاذورات التي قامت بها إدارة بوش الابن وفداحة جريمتها في حربها على العراق. ويبدأ الكتاب بتقديم خلفية مخيفة عن رئيس شركة «بلاك ووتر» المدعو أريك برنس، وهو جندي سابق في أهم وحدة بالبحرية الأميركية وأشرس الفرق المقاتلة بها «الكلاب البحرية» (NAVY SEALS)، وهو مؤدلج جدا ويميني متطرف إلى أقصى درجة، وتمتد أصوله الأسرية إلى شخصية معروفة في التاريخ الأميركي هو فان بيرسون، أحد أهم الشخصيات الماسونية التي دعمت جورج واشنطن، أول رؤساء أميركا في حربه من أجل الاستقلال من التاج البريطاني وقتها.

وجاءت فكرة تأسيس شركة «بلاك ووتر» حين وصل بوش الابن إلى الحكم يقوده فريق المحافظين الجدد ويدعمهم ديك تشيني نائب الرئيس ورمسفيلد وزير الدفاع، وهم أرادوا إنشاء كيان مستقل (خارج الإطار الرسمي) تعهد إليه العمليات القذرة لكي تنفذ بفعالية ودون محاسبة أو نظر من الكونغرس ولا من الإعلام، فأوكل لأريك برنس هذه المهمة لتكوين كيان غرضه الرئيسي هو حراسة كبار الشخصيات الأميركية والعراقية، وأهم المباني العامة بالعراق، و«تنفيذ بعض المهمات الصعبة والاستراتيجية».

وبدأ أريك برنس في البحث عن أهم الموارد البشرية ومصادرها التي من الممكن أن تمكنه من إنجاز هذه المهمة، وبدأ في استقدام أهم العناصر من تشيلي حين أدرك أن كفاءة المقاتل وتمرسه هناك سيكونان عنصر دعم له، وكذلك المقاتلين من أميركا الوسطى مثل نيكاراغوا وهندوراس والسلفادور، مستفيدا من خبرة التنفيذي الأميركي نيغرو بونني، والذي كان سفيرا لأميركا في أميركا الوسطى (وجاء في منصب تنفيذي في إدارة بوش الابن لاحقا)، وطبعا كان هناك عناصر أميركية وإسرائيلية وروسية أيضا حتى وصل قوام هذا «الجيش» إلى 65 ألف شخص بحسب بعض التقارير الموثوقة، وكلفوا بالكثير من العمليات المريبة والأعمال القذرة، ولم يكن ذلك كافيا، بل كلفوا أيضا بجمع المعلومات والأسرار والاستخبارات وتحليلها، بمعنى آخر أن أعمال الحرب والاستخبارات كانت تكلف من الباطن (Outsourcing)، وبالتالي الشركات التي كان أساس مهمتها هو الحماية الخاصة، باتت تقدم خدمات كاملة كانت من تخصص الحكومة الأميركية نفسها، وزادت المهمات لتشمل تصنيع أجهزة وسيارات ومعدات نقل وحماية للجنود، وشيدت لها المصانع والمعامل.

هذه هي القصة المرعبة لشركة صغيرة أسست في مدينة مويوك الهادئة النائمة بولاية نورث كارولينا، لتصبح أحد أهم أيقونات الحرب على الإرهاب، وما تم الاستفادة من ذلك.

بصمات المحافظين الجدد في كل مكان، فآرثر ريتشارد بيرل أو أمير الظلام كما كان يعرف، ومساعد وزير الدفاع الأميركي تلك الشخصية المثيرة للجدل بول ولفواتز - وغيرهما - كانا من أهم الشخصيات الداعمة لـ«بلاك ووتر» وتوجهها لأن خططهما تتوافق تماما مع توجهات الشركة التنفيذية.

كتاب «بلاك ووتر» هو قصة مرعبة ولكنها حقيقية للتغيرات المؤلمة في السياسات الخارجية الأميركية إبان عهد بوش الابن المظلم، والمستويات الأخلاقية المتدنية التي وصلت إليها، ولكن نشره والتعرف على ذلك هو شهادة بحق المجتمع الأميركي القادر على نقد نفسه وإصلاحها.