ثلوج وأمطار

TT

أنا مسير، إذن أنا غير مسؤول.. أنا مخير، إذن أنا مسؤول.. تلك هي المعضلة التي يبنى عليها الإحساس بالذات وبالعالم الكبير، فأنا إن كنت قطعة شطرنج تتنقل على لوحة مرسومة فلست مسؤولة عن فوز ولا هزيمة. ولكن إذا كان الخيار لي، فيمكنني التحرك من هذا الموقع إلى ذاك، فأصبح شريكة في الفوز والخسارة أيضا.

غشتني تلك الأفكار وأنا محلقة فوق السحاب داخل طائرة معلقة بين السماء والأرض، علما بأنني كنت حسمت المعضلة منذ زمن، استنادا إلى إيماني بأن الله قد أحاط بكل شيء علما؛ فهو سبحانه يعلم باختياري من قبل أن أحدده، لأنه خلقني وعلمني أن هذا الطريق فيه السلامة، وذاك الطريق فيه الندامة، إذن أنا أسير حيثما اخترت.

حين اكتشفت في الطائرة أن برامج الترفيه لم تتغير، حانت لحظة الاختيار. فإما أن أريح ذهني المكدود من عناء حزم الأمتعة والوجود في المطار، وإنهاء إجراءات الأمن فأستسلم للنوم, وإما أن أكتفي بالتحديق إلى سقف الطائرة فيرهقني الملل, أو أقرأ كتابا كنت أحمله.

في أقل من نصف الساعة، نقلتني القراءة من حال إلى حال. أمتعتني.. أثرتني.. ثقفتني، فذابت ساعات الرحلة ذوبانا. وقبل أن تهبط الطائرة، عنَّ لي أن أنظر من النافذة بعد أن شارفت الرحلة بين بيروت ولندن على نهايتها. وكانت في انتظاري مفاجأة. كنت قد غادرت بيروت وهي ترقد في حضن شمس حانية، وتتنفس أنفاسا دافئة مشبعة بنسيم البحر. وبعد ساعات في الطائرة، لاحت لندن، وقد كستها نقاوة الثلوج البيضاء. اختفت معالم المدينة تماما، فلا أسطح البيوت تظهر، ولا أثر لشجر ولا ماء.

وهنا عادت المعضلة تلح علي: نزول هذا الكم من الثلوج ليس بيدي طبعا، فأنا لم أختر أن تتعطل حركة الملاحة في المطارات، وأن تتعدد حوادث السيارات بفعل تراكمها, أو أن تتخلف نسبة كبيرة من الموظفين عن وظائفهم بسببها. تحت جنح الظلام هبطت كرات صغيرة تشبه القطن المندوف تباعا فوق المدينة، وتسبب هبوطها الحثيث في أن ارتدت هذا الرداء الصامت العنيد، تماما كما تسبب هطول الأمطار الغزيرة على جدة في تدمير البيوت والسيارات، وموت العشرات، وانتشار الفزع. أربع ساعات لا أكثر بدلت وجه الحياة في المدينة بلا رجعة، وأهل جدة حتما لم يختاروا الحدث.

وصلت سالمة. وحين توقفت السيارة أمام بيتي شاهدت عجبا؛ فقد دبت في الشارع حياة لم نألفها من قبل، فمن سكون لا ترى فيه وجها ولا تسمع صوتا، إلى حركة متعددة المستويات؛ فقد خرج الأطفال من البيوت للعب بكرات الثلج، وخرج الآباء لتجريف الثلوج لمنع وقوع الحوادث. وفي غضون دقائق، كنا نتبادل حديثا وديا مع الجيران عن غرابة الطقس، ثم انضمت إلينا جارة جاءت لتطلب القليل من السكر بعد أن تعذر عليها الذهاب إلى السوبر ماركت بفعل الثلوج.

وفي التو، ارتدت بي الذاكرة إلى أسباب سفري إلى بيروت، لتقديم برنامج عن نتائج الحدث في جدة.. عن اندفاع الشباب بقوة لمواساة المنكوبين، وتطوع الناجين لإيواء المصابين، وعزم المسؤولين على محاسبة الطامعين المتلاعبين بالمال العام وبمصائر الأبرياء والمحتاجين.

ومن قلب الذاكرة سمعت: «وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا» (سورة الجن:10)