تركيا.. استراتيجيتها لها مكر الثعالب

TT

من المفارقات اللافتة أن تعلن إسرائيل عن نيتها بناء جدار عازل على حدودها مع مصر في اليوم نفسه الذي أعلن فيه عن إلغاء تأشيرات الدخول بين تركيا ولبنان. أكثر من ذلك، فقد كشفت إسرائيل عن نيتها بناء جدران عازلة تفصلها عن كل الدول المحيطة بها، في الوقت الذي صار فيه بمقدور المواطنين التنقل بحرية ومن دون تأشيرات بين لبنان وسورية والأردن وتركيا، كمساحة مفتوحة ومحررة من أوجاع «الفيزا». والعراق لولا وضعه الأمني المتردي كان مرشحا لينضم إلى الدول الأربعة بسهولة، ويشكل نقطة ارتكاز قوية لمحيطه. لكن بانتظار الهدوء العراقي المأمول ثمة، حقا، ما يستحق الاحتفاء. فمنذ مدة والمواطنون بين سورية ولبنان والأردن مرتاحون من التأشيرات، بعد سنوات أمنية عجاف، وتجارب قاسية فصلت أقرباء عن بعضهم، وفرقت أحباء. انضمام الأتراك إلى المساحة العربية المعفاة من التأشيرات، يأتي نتيجة ذكاء تركي ورغبة في لعب دور ستظهر آثاره قريبا، بعد أن أدار الاتحاد الأوروبي ظهره لنداءات أنقره واستجداءاتها بالانضمام إلى جنته. أكثر من 100 اتفاقية تعاون عقدت حتى الآن بين تركيا ودول الجوار العربي في فترة قياسية، وسيتزايد عددها - بحسب المسؤولين الأتراك - فيما ألغت أنقره التأشيرات مع دول عربية ثلاث في غضون الأشهر الثلاثة الأخيرة. السياح الأتراك يغزون دمشق وربما قريبا بيروت وعمّان. الحلقة الضعيفة حتى اللحظة هي افتقاد وسائل النقل السريعة والمريحة والطيران المتدني الأسعار. ما أمنه طيران شركة «العربية» من نقل منخفض السعر، سمح لبعض اللبنانيين بالعمل في الإمارات وزيارة عائلاتهم وزوجاتهم في عطلة نهاية الأسبوع أو استدعاء أهاليهم لقضاء بعض الوقت معهم، نموذج مشجع يمكن أن تلجأ لتطبيقه أنقره، بينها وبين دول الجوار العربي، لتسهيل تنقل السياح منها وإليها ما لم يسارع العرب إلى ذلك. وزير السياحة اللبناني يفرك كفيه من الآن، حماسة، وهو يراهن على وصول الأتراك بعد أن صارت السياحة الأردنية في لبنان مفتوحة للطبقة المتوسطة.

العرب كلهم مستفيدون من الانفتاح المستجد، سورية أطلقت 700 مشروع سياحي للكويتيين بينها استثمار بمئات ملايين الدولارات، ولبنان الاستثمارات السياحية الخليجية فيه كبيرة ومتنوعة. الوضع المالي المتأزم في أميركا وأوروبا لعب دورا في استبقاء مزيد من الأموال في المنطقة العربية. العودة إلى إهانة المسافرين العرب في المطارات الغربية، كتعريتهم إلكترونيا، واستسهال تعريضهم للإشعاعات الضوئية وإيذائهم صحيا بحجة مكافحة الإرهاب، سيجعل المستثمرين يفكرون بشكل متصاعد في البقاء ضمن الحيز الجغرافي المحيط بهم.

مشروع «أوروبا جارتنا» الإعلامي الإعلاني، كالمشاريع الكثيرة المكلفة التي ينفق عليها الاتحاد الأوروبي ملايين الدولارات لإقناع العرب بحسن الجوار، لن تكون كافية في المستقبل لتشجيع أصحاب رؤوس الأموال، على احتمال الضيم في المطارات، والتنقل في سبيل بعض الاستثمارات غير مأمونة العواقب.

العلاقة التي تحيكها تركيا مع عرب بلاد الشام تتجاوز السياحي إلى التقني والطبي والعسكري. حزب العدالة والتنمية يضيف إلى هذا كله ما يسميه «صلات القربى». ويقول وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو على أحد التلفزيونات اللبنانية مخاطبا المواطنين، إن السياسة التركية تنطلق من مبدأ «كل الناس في المنطقة، أقرباء لنا وأشقاء ولدينا ماض مشترك ومستقبل مشترك». لكن الأهم من ذلك هو أن يوضح الوزير بأن الهدف في النهاية هو «إنشاء شرق أوسط مسالم ومستقر ومزدهر». لم يستثن أوغلو إسرائيل التي ترتبط معها بلاده بعلاقات استراتيجية، تميل إلى التوتر منذ حرب غزة وما استتبعها من حروب تصريحات ومسلسلات تلفزيونية واستدعاء سفراء بين أنقره وتل أبيب. لكن السؤال هو: ألا تستثني إسرائيل نفسها من مشروع كانت هي صاحبته ومبتكرة تسميته، في وقت بات فيه فتح الحدود بين الدول حاجة حياتية ملحة، كالماء والهواء؟

يحق لتركيا أن تعتبر فتح حدودها من دون تأشيرات مع سورية «خطوة تاريخية»، تدشنها بعيد شعبي بهيج، تحتفل به القرى الحدودية بين البلدين. ويحق لتركيا أيضا أن تعتبر زيارة سعد الحريري إليها منذ أيام، مع وفد وزاري رفيع، لتوقيع اتفاقيات تعاون في مجالات متعددة، أنها زيارة تاريخية أيضا. فما يتم إنجازه بين أنقره والدول العربية المحيطة بها، من دون ضجيج كبير، لن يكتشف العرب أبعاده إلا بعد أن يلمسوا آثاره. فثمة جدران فولاذية ترتفع في المنطقة، ابتكرت فكرتها إسرائيل في المكان الخاطئ والتوقيت الخاطئ. والذاكرة العثمانية التي بنت أمجادها ذات يوم على فكرة المناطق المفتوحة والشعوب المتثاقفة، هي الأقدر اليوم على فهم غباء الجدران وخطورتها، وإمكانية قلب سحرها على ساحرها.

الاستراتيجية التركية المحنكة التي ينحني العرب تباعا اليوم أمام إغرائها ونعومة ملمسها، ستسهم إلى حد كبير، في حال أمكن استكمالها وتثميرها، ليس فقط في تنمية المنطقة، ولكن - وهذا هو الأهم - في جعل إسرائيل دولة وحيدة ومنبوذة خلف جدرانها. فالحيطان المتعالية ستعزل إسرائيل، والحدود المفتوحة حولها ستزيد من إحساسها بالاختناق والهامشية. منطقة حرة مزدهرة يتنقل فيها الناس بحرية ويحترمون اختلافاتهم، بمحاذاة غيتو يهودي عنصري عدواني، سيجعل المشهد مذموما حتى من المتعامين اليوم والدافنين رؤوسهم في رمل آيديولوجيا «حماية إسرائيل» وحفظ أمنها. قد يكون الحلم التركي عصيا مع عرب تحكمهم الأهواء والأمزجة المتحولة. لكن ثمة أكثر من مشروع تعاني منه إسرائيل اليوم. هناك المقاومة الإسلامية المسلحة على حدودها مع لبنان وغزة، وهناك مشروع السلام الذي تصر عليه دول الاعتدال العربي، وتركيا شريكة فيه. لكن يوجد مشروع ثالث تسعى له تركيا من دون تصريح وتوضيح، وهو تشكيل منطقة تجارية مفتوحة مع العرب أو بعضهم على الأقل. وهذا قد يكون أكثر المشاريع فتكا بإسرائيل.