إني أحبكم

TT

في صغري عرفت رجلا أصم وأبكم، وكان ذلك الرجل في غاية الذكاء والطيبة، وللأسف أن أقراني من الأولاد كانوا يتندرون عليه ويقلدونه في صوته ومخارج ألفاظه، ومع ذلك لم يكن يضيق بهم ذرعا، حيث أنه لم يكن يسمع أو يدرك بعض ما كانوا يقولونه، وكنت أستاء جدا من تصرفاتهم، وكثيرا ما تعاطفت معه وبذلت المستحيل في استيعاب ما يريد هو إيصاله لي، وأبذل المستحيل أيضا في ما أريد أنا إيصاله له.

ولغة الشفاه للصم والبكم هي لغة أقدم من لغة «الإشارة» المستحدثة، وقد حصل جدل كبير، استمر أكثر من مائة عام، حول أي من اللغتين أجدر بأن تتعلم وتسود في هذا العالم «الساكن»، ويذهب أصحاب لغة الشفاه أو التلقين بالنطق إلى أن الصم ينبغي أن يعبروا عن أنفسهم بالكلام أسوة بباقي الناس مهما كانت الصعوبات، أما أصحاب التلقين بالإشارة فيذهبون إلى أن البدء بالنطق عسير جدا على الأصم، إذ يحتم عليه التقاط الأصوات عبر الحركات، لهذا تنشأ عنده أخطاء كثيرة، خصوصا عندما يكون هناك تشابه في مخارج الحروف. ولو أننا أخذنا اللغة العربية مثلا، فسوف يحتار من يقرأ الشفاه بين حروف: «ب/م»، «د/ت»، «ج/ش»، «أ/ع»، «س/ص»، وأيضا هناك تشابه في نطق الحروف اللاتينية مثل: «V/F»، «B/P»، «G/K».

ولكن في بداية الستينات من القرن الماضي أخذت لغة الإشارة تسود وتكتسح وتنتشر في مختلف مراحل الدراسة، وحتى في الجامعات الخاصة التي تدرس كلها «بالإشارة». وبسبب حب هؤلاء الصم والبكم لهذه الطريقة الميسرة في التعليم، فإن خريجي تلك المعاهد والجامعات لا يريدون مغادرتها، ويوم التخرج يسود الحزن بينهم.

ولكنهم بدأوا يبرزون في مجال أعمالهم كفنيين وإداريين، وفي حقول كثيرة كالفيزياء والكيمياء والتعليم والقانون والبرامج الإلكترونية، ولقد شاهدت راقصات صماوات بكماوات يؤدين فاصلا استعراضيا، فخلبن لبي بجمالهن ورشاقتهن وإتقانهن.

ويقال إن الرئيس الأميركي الأسبق كارتر، استطاع إبان حملته الانتخابية أن يستحوذ على أصوات الصم والبكم في أميركا عندما خاطبهم في التلفزيون بيديه «بلغة إشارتهم» قائلا: «إني أحبكم».

وبما أنني وصلت الآن إلى كلمة: «أحبكم»، وهي الكلمة التي عندما أسمعها تخور قواي وأصبح كالريشة في مهب الريح، أقول إنني عندما وصلت إليها، كان لزاما علي أن أحكي لكم قصة شاب يدعى مايك عمره 23 سنة، وفتاة تدعى مونيكا عمرها 21 سنة. كلاهما أصم وأبكم، ويدرسان معا، واستباح الحب قلبيهما، ونجحا وتزوجا وخلفا ابنا صحيحا ليست به أي إعاقة، رغم أن والد مايك ووالدته وشقيقه الأكبر وشقيقاته الثلاث كلهم صم بكم يستخدمون لغة الإشارة.

ويحكي مايك عن حياته مع عائلته قبل أن يتزوج: «إن جرس الباب كان عبارة عن نور يلتمع ويخبو باستمرار إلى أن يفتح الباب، كما أن جرس الجوال يصدر وميضا، وهو عبارة عن آلة تلغراف كاتبة يطبع عليها أفراد العائلة برقياتهم، وهم يستيقظون صباحا على أنوار تبثها منبهات ساعاتهم».

وتوضح مونيكا الأمر التالي وتقول: «إن الأصم يشعر بالسيادة على جسده أكثر من غير الأصم، فهو يتكلم بجسده كله، بيديه وعينيه ووجهه وصدره، وليس فقط بفتح شفتيه وإطباقهما، وهي لغة تفوق اللغات المحكية في التعبير عن المشاعر الداخلية ووصف العالم الخارجي».

لا أدري مدى صحة كلام مونيكا.. ولكنني أقول لكم بصدق: ما أسعد حظ من يظفر بعروس صماء بكماء، ولو كانت فوق ذلك مشلولة كان أحسن، «ويا دار ما دخلك شر».

[email protected]