سوداني أمام البيت الأبيض

TT

طار صوابي وأنا اقرأ أن شخصا اسمه محمد علي صالح أعلن أنه ينوي الجهاد أمام البيت الأبيض، بحثت بقلق في صحيفة «واشنطن بوست» التي أذاعت الخبر ووجدت أن الجهادي بالفعل ليس إلا صديقي الصحافي العتيق! صدمة الثواني مرت كأنها دهر بأكمله، ما الذي حل بهذا الرجل الذي عرفته لسنين طويلة كأكثر الأصدقاء تعقلا وأكثر الناس مسالمة؟ غُم عليّ لأنني اعتبرتها هزيمة شخصية لي، أن أرى شخصا محترما ينتهي هذه النهاية المأساوية، وثانيا هذه سابقة لأنه على كثرة معارفي المتطرفين فكريا لم يفجر أحدهم نفسه في أحد، ولم يطأ أكثرهم تطرفا على ذيل نملة، فكيف انتهى الصديق المسالم هذه النهاية المروعة؟

وجدت الزميل القديم يشرح نفسه بنفسه في الصحيفة، قال إنه قرر الجهاد الصامت، طبعا الكلمتان متناقضتان في المفهوم العصري للجهاد، وللنهي عن المنكر، لكنها في المفهوم الديني صحيحة لأن الاحتجاج الكلامي في الإسلام جزء من الاعتراض. عمليا قال الصديق السوداني إنه قرر أن يقف كل يوم أمام البيت الأبيض محتجا بصمت حتى الموت، على ما يعتبره سياسة أميركا ضد المسلمين.

طبعا يعرف محمد، كمواطن أميركي، أنه في الولايات المتحدة من حق الشخص أن يحتج على الرئيس والحكومة والنظام كما يشاء. من حقه أن يذهب إلى شارع بنسلفانيا ويقف أمام البيت رقم 1600، عنوان بيت الرئيس، ما دام يرفع لافتات ولا يرفع سلاحا ولا يقفز فوق السور. هناك من حقه أن يحتج، أن يصرخ حتى يبحّ صوته، ولن يبيت تلك الليلة في سجن المباحث. ورغم أن صديقي السوداني قرر تمضية كل نهار، في بدلته الأنيقة، واقفا صامتا محتجا، أشك في أنه سيغير رأي الرئيس باراك أوباما حتى لو مات واقفا أمام البيت الأبيض. فالسياسة العليا لا تقرَّر بناء على ما يراه الرئيس من نافذة غرفة نومه.

سياسيا، أعتقد أن صديقي المجاهد يخلط في رؤيته للقضايا، وبحسب ما نسبته إليه الصحيفة، تبدو رؤيته انتقائية، يلوم بشكل مبالغ أوباما على مآسي المسلمين دون الاعتراف بأنها إشكالات من المسلمين أنفسهم، ويقلل من حجم التحديات التي تواجه الرئيس من قبل إرهابيي التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وهي نفس التحديات التي تواجه كل زعماء الدول الإسلامية بلا استثناء، ولا تخص واشنطن فقط. رغم ذلك لم يخطئ صديقي طريقه، فهو يمارس حقه بطريقة محترمه ونظاميه، يرفع لوحتين: واحدة تتساءل «ما الإسلام؟» والأخرى تستنكر «ما الإرهاب؟». إن لم يستطع أن يقنع الرئيس أوباما بوجهة نظره على الأقل لن يتسبب في إيذاء الآخرين من أسلوبه الحضاري في التعبير عن رأيه.

هناك كثيرون يمرون بمحن نفسية بسبب السياسة، حتى إن كانت لا تعنيهم القضايا مباشرة. يريدون أن يعبّروا عن رأيهم بما يريح ضمائرهم. مثل محمد علي صالح هناك غيره يقفون أو يجلسون أمام البيت الأبيض، وليسوا محظوظين مثله تكتب عنهم كبريات الصحف، لكنهم على الأقل يشعرون بأنهم يؤدون واجبا شخصيا تجاه أنفسهم وتجاه المجتمع الذي ينتمون له.

[email protected]