نفس الرسالة على موجتين

TT

المقصود هنا أن فتح النقاش في المغرب حول مشروع «الجهوية الموسعة» يسير في خط مواز مع مقترح «الحكم الذاتي» للأقاليم الصحراوية المطروح على صعيد الأمم المتحدة. يتعلق الأمر بمسعيين؛ أحدهما: يسير في اتجاه إعادة بناء الدولة المغربية في شكل جهات مزودة بأجهزة للتسيير الذاتي. والثاني: يسير في اتجاه التجاوب مع الشرعية الدولية لتسوية نزاع فُتح في المنطقة غداة تمكن المغرب من استرجاع أراضيه من إسبانيا.

قد يبدو لأول وهلة كما لو أن المصطلحين متناقضان، بحكم أن مشروع «الجهوية الموسعة» يهم المغرب وحده، في حين أن مقترح «الحكم الذاتي» ملف يتطلب مفاوضات تتم بإشراف الأمم المتحدة وبوساطة دولية. والواقع أن الأمر يتعلق بنفس الرسالة ولكن يتم بثها - كما يقال بلغة تقنية البث الإذاعي - على موجتين.

إن المغرب بصدد ترتيب أوضاعه الداخلية على أساس اللامركزية الإدارية منذ عقود. وهو يقوم بخطوات في هذا الصدد منذ 1971، بتوسيع طفيف في صلاحيات المجالس المحلية المنتخبة. وحدث حينما تم استرجاع الصحراء في سنة 1975، أن أدرجت الأقاليم الصحراوية في نفس المسلسل، مع إضافة كانت تقتضيها الظروف، وهي التأكيد على شيئين؛ الأول: أن ثروات الصحراء ستستثمر لفائدة أبنائها، والثاني: أنه ستحال على المجالس المحلية التي تمثلهم صلاحيات تصان فيها تقاليدهم وتتيح لهم تسيير شؤونهم بأنفسهم.

وأقول: إن الظروف السائدة حينئذ كانت تقتضي التصريح بتطمينات من هذا القبيل، لأن وساوس خبيثة كانت قد ترددت تنسب للمغرب نوايا توسعية، بدعوى أنه إنما كان يتحرك بدافع من أطماع لاستغلال ثروات الصحراء. فكان على الحسن الثاني رحمه الله أن يبادر في يوم الجمعة الموالي لتحريك المسيرة الخضراء في 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 1975 بأن وجه خطابا إلى سكان الأقاليم الجنوبية للتبشير بما أصبح بسرعة يقدم على أنه وعد بإقامة نظام للأقاليم الصحراوية يشبه نظام اللاندر الألماني، فضلا عن تدعيم التوجه نحو اللامركزية على صعيد عموم المغرب.

وازداد مع الأيام تأكيد عزم المغرب بشأن اللامركزية مقرونا باحترام خصوصيات الأقاليم الصحراوية. وكان ذلك يتم في إطار السياسة الداخلية، وكذا في غمرة المواجهات التي كانت تتم في منظمة الوحدة الأفريقية وغيرها من المحافل الدولية. ولا نحتاج هنا إلى التذكير بالمراحل العويصة التي مر منها ملف الصحراء وخاصة بعد أن تولى الملف الأمين العام للأمم المتحدة ابتداء من 1991، بإشراف مجلس الأمن.

وحينما تعثر مخطط دي كويليار، وكذا وساطة جيمس بيكر، ووصلنا إلى المأزق الذي سقط فيه الملف، اقتنع المجتمع الدولي أن المخرج الواقعي الوحيد هو حل وسط بين الاستقلال الذي دافعت عنه الجزائر وما زالت، وبين الضم الذي قام به المغرب، وتم التلويح بإقامة حكم ذاتي في الصحراء مع الإبقاء عليها تحت السيادة المغربية.

وتكرس التوجه في هذا الأفق مع بداية العشرية الحالية. وكانت حكومة المغرب منذ 10 مارس (آذار) 2001 قد أعلنت من خلال خطاب للوزير الأول ع.ر. اليوسفي في مدينة العيون، أنها بصدد الإعداد لترتيبات إدارية تنتهي بإقرار نظام لا مركزي في الأقاليم الصحراوية.

وتمكن العاهل المغربي محمد السادس من إقناع القادة الأميركيين بأنه جاد في تفويت صلاحيات مهمة لحكومة لامركزية تقام في الأقاليم الصحراوية. وابتداء من 2002 بدأ المشروع المغربي بهذا الصدد يخاطب عقول الباحثين عن حل سياسي للنزاع حول الصحراء.

وأصبح واضحا أن الموقف الأميركي يقوم على تأييد المشروع المغربي، إلى حد أن وزير الخارجية كولن باول طالب صراحة في 3 ديسمبر (كانون الأول) 2003 كلا من الرباط والجزائر بالاتفاق لإنهاء النزاع بينهما حول الصحراء. وكذلك صنعت فرنسا على صعيد مجلس الأمن سواء في ظل رئاسة شيراك أو ساركوزي، ومثلها إسبانيا التي لم تخف اقتناعها بأن حل مشكلة الصحراء ستسهم في توطيد الاستقرار بالمنطقة وهو أمر حيوي لأوربا.

وفي ديسمبر 2004 لدى إصرار الجزائر على العودة بالملف إلى خطة دي كويليار التي اقتنع الجميع بأنها غير قابلة للتطبيق، كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد شهدت تصويتا حاسما دل على تبرم المجتمع الدولي من خطط التمطيط والتحايل لإبقاء النزاع مفتوحا، إذ امتنع عن التصويت على المشروع الذي قدمته الجزائر مائة دولة، ولم يساير الأطروحة الجزائرية إلا 50 دولة. أي أن المجتمع الدولي اقتنع بأهمية الاتجاه نحو حل يقوم على الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية.

وتبلور المشروع المغربي في شكل مقترحات ملموسة قدمت إلى الأمم المتحدة في أبريل (نيسان) 2007، وبتزكية من «فريق الأصدقاء» المؤلف من ممثلي كل من أميركا وفرنسا وبريطانيا وروسيا وإسبانيا.

ومعلوم أن ولاية الوسيط الأممي بشأن الصحراء دي صوطو كانت قصيرة بسبب الاقتناع بصواب وجهة النظر المغربية. وأما خلفه الهولندي فالسوم فإنه أعلن رأيه علانية إذ قال: إن استقلال الصحراء أمر غير واقعي. ومعلوم أن الأمر كان قد انتهى به إلى الانسحاب من الوساطة.

وكان العاهل المغربي قد أعلن عام 2002 أنه سيمضي قدما في إقامة نظام «جهوية موسعة» في كل من أقاليم الصحراء وأقاليم الشمال. ثم عاد وأعلن عن العزم على إيلاء الأولوية للأقاليم الصحراوية. وفي 6 نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 أعلن أن نظام اللامركزية سيعمم في المغرب كله في نطاق إعادة هيكلة الدولة المغربية بمجموعها. وسمي ذلك في الخطاب السياسي المغربي بـ«الجهوية الموسعة».

وهكذا فقد فتح مسلسلان: أحدهما يمكن أن يقرر المغرب في شأنه بواسطة مؤسساته السيادية. والثاني خاص بالأقاليم الصحراوية، سيترك له الوقت الكافي لكي ينضج، ويطبق حينما تتهيأ الخواطر، على صعيد المنطقة، أي أن تسهل الجزائر التفاوض الذي ترعاه الأمم المتحدة. ولن يبقى المغرب في انتظار أن تنضح الظروف في المنطقة، لكي يقدم على تطبيق إصلاح في هياكله، لأن في ذلك الانتظار ضياعا لمصالح حيوية.

وقد سبق لي أن علقت على فتح المسلسل الثاني فقلت: إن الأمر يمكن أن يدوم ثلاثين سنة أخرى. وذلك لأن الطرف الآخر ليس مستعدا لإقفال الملف. من جهة لأن البوليزاريو ليست سيدة قراراها، ومن جهة أخرى لأن الجزائر لا تزداد إلا معاكسة للمغرب. ومن المشكوك فيه أن تساعد الجزائر على طي الملف. فقد ظهر بعد لقاء بين العاهل المغربي والرئيس الجزائري على هامش القمة العربية بالجزائر سنة 2005، أن الأجواء أصبحت ملائمة لوئام جزائري مغربي، ولتحريك اتحاد المغرب العربي. لكن الجزائر قامت بتصعيد مفاجئ ما فتئ يتقوى إلى يومنا هذا، على نحو ينبئ بأنها لا ترى بديلا لإقامة دولة صحراوية مستقلة فيما بين المغرب وموريتانيا.

لقد انطلق إعداد نظام «الجهوية الموسعة»، وفي أجل لا يتعدى يونيو (حزيران) القادم يجب أن يكون التصور المغربي بهذا الشأن جاهزا، ليشمل الأقاليم الصحراوية. وأتصور أن بعض الشكليات ستصان من أجل تسهيل إقامة نظام «حكم ذاتي» في الصحراء حينما تنضج الظروف «للحل السياسي المتفاوض بشأنه والمقبول من لدن جميع الأطراف».

إن الأمر يتعلق بإقامة دولة عصرية مكونة من جهات تتمتع بأجهزة تنفيذية وتشريعية وقضائية، جنوب خط العرض 27›40›› وشماله.