نظرات في مسألة الأمن والفكر

TT

أمور كثيرة بدأ يدخل فيها مفهوم «الأمن»، حتى لو كانت تلك الأمور لا علاقة لها بمفهوم الأمن بمعناه التقليدي. فمن المفهوم أن يكون هناك حديث عن الأمن القومي، أو الأمن الوطني، أو الإقليمي أو العالمي، بل وحتى الحديث عن الأمن الغذائي، بمعنى أن لا تتحول الدولة إلى معتمدة كليا في غذائها على مصادر خارجية، بحيث يتحول الغذاء إلى سلاح يمكن من خلاله إجبار دولة ما على سلوك ما عن طريق تجويعها. وربما ظهرت غدا مفاهيم أخرى للأمن، مثل الأمن النفطي، أو الأمن المائي، أو حتى الأمن البيئي، فكل هذه التطورات ممكنة ومحتملة ومفهومة، ولكن عندما يأتي الحديث عن مفهوم جديد مثل مفهوم «الأمن الفكري»، فإن العقل يتوقف عند هذا المفهوم، محاولا فهمه حق الفهم، إذ إن المفهوم ضبابي إلى حد كبير، ولا تعريف دقيقا له، فما هو معنى الأمن الفكري؟

قبل أن يجري هذا المفهوم على الألسن، أو يدخل على استحياء ضمن أدبيات السياسة والثقافة والاجتماع، كان الحديث في مرحلة معينة عن «الأفكار الهدامة»، والتيارات الفكرية الهدامة التي تسعى إلى تقويض المجتمعات والثقافات القائمة، فكانت الدعوة إلى محاربة مثل تلك الأفكار والتيارات. ولكن تبين في النهاية أن مفهوم «الأفكار الهدامة» هو مفهوم مثقل بحمولة سياسية وآيديولوجية كبيرة، بصفته إفرازا من إفرازات الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، بحيث أصبحت «الأفكار الهدامة»، والمبادئ الهدامة، مقصورة في النهاية على الشيوعية وتغلغلها في بلاد العالم الثالث، حين كان للشيوعية بريق وجاذبية، كانت «الأفكار الهدامة» مقولة آيديولوجية كجزء من الحرب الفكرية والسياسية بين المعسكرين، وحلفاء هذين المعسكرين، لم تلبث أن سقطت حين سقطت القطبية الدولية، وبذلك انتهت الفكرة حين استنفذت أغراضها ولم يعد لها وظيفة محددة، أو معنى يمكن أن يكون مقبولا.

من ناحية أخرى، ومن زاوية معينة، فإن وصف الأفكار بالهدم أو بالتعمير مسألة نسبية في الختام. فما يمكن أن يوصف بالهدم في مكان ما أو زمن ما، قد يوصف بالتعمير في مكان آخر أو زمن آخر، والعكس صحيح. فالدعوة إلى تعليم المرأة مثلا كانت دعوة هدامة في كثير من المجتمعات إلى وقت قريب، ثم أصبحت دعوة بناءة بعد ذلك، رغم أن الفكرة هي ذاتها. وفي اعتقادي فإن المحك في هذه المسألة. والفيصل في قضية الهدم والتعمير في مجال الأفكار، وبعيدا عن التسييس والأدلجة والتعصب الفكري، هو قدرة الفكرة على المنافسة في وجود أفكار أخرى، وقابليتها العملية للتنفيذ، وفائدتها للإنسان في الخاتمة. الفكرة البناءة فكرة لا تختفي وإن طال الزمان، وتجد موقعها من التطبيق، لأنها فكرة تؤمن فائدة ما للإنسان، حتى وإن رفضها الإنسان في لحظة من اللحظات.

مفهوم المبادئ أو الأفكار الهدامة، إن كان له أن يسمى مفهوما، ليس إلا فكرة محكوما عليها بالموت بمجرد ولادتها، حيث إنها كانت مرتبطة باتجاهات سياسية وتيارات آيديولوجية معينة، ولا تلبث الفكرة أن تسقط وتموت بمجرد انتفاء حاضنها، أو عدم احتياجه لها بعد انتهاء مبررها.

ليس هناك ما يمكن أن يطلق عليه اسم ثقافة صافية أو نقية بالكامل، فكل ثقافة لا بد أن تكون حاملة لأثر ثقافة أو ثقافات أخرى، أو نتيجة تثاقف تاريخي غير محسوس، ولكنه فاعل. فالأمن الفكري يفترض أن هنالك ثوابت لا تمس في ثقافة من الثقافات، وبالفعل هنالك ثوابت لا تمس في أي ثقافة من الثقافات، فمثل هذه الثوابت هي الرواسي التي ترتكز عليها هذه الثقافة أو تلك، ولكن من يحدد هذه الثوابت؟ هذا هو السؤال، وهنا تكمن الأزمة.

الثقافات الحية في الأمم الحية، لا تثار فيها مسألة الثوابت هذه، أو تثار قضايا الهوية والأمن الفكري الناتجة عن مثل التساؤل حول هذه الثوابت، لأن هذه الثوابت معيشة، وبالتالي داخلة في نسيج حياة المجتمع وحركته في القديم والحديث، والحديث حولها سفسطة لا ضرورة لها، بل إنه يقود في النهاية إلى وصاية معينة عليها. أما حين تعجز ثقافة ما عن المنافسة في وجه ثقافات حية أخرى، وتبدأ تلك الثقافات في اختراق كثير من «ثوابت» الثقافة المعنية، أو ما افترض أنها ثوابت، وهو ما كان يسميه البعض «غزوا فكريا» في وقت من الأوقات، فإن مفاهيم مثل ضرورات الأمن الفكري، والغزو الفكري، والبحث في مسألة الهوية، تصبح همّ القوم، وخطابهم الجديد في وجه اختراق الآخر الثقافي للثقافة المحلية، التي يفترض فيها الثبات، وهو افتراض غير علمي، وإن كان خادما لأغراض لا علاقة لها بالثقافة أو حركة المجتمع. بل يمكن القول إننا نستطيع قياس قوة ثقافة ما، في مواجهة ثقافات أخرى، من خلال خطاب الهوية الثقافية، والتحذير من الغزو الفكري، والدعوة إلى الأمن الفكري. وفي النهاية كل ذلك لا يجدي فتيلا، فإذا كانت الثقافة محل التحليل ضعيفة إلى حد الهشاشة، فإنه لن ينفع معها علاج أو حماية. وإن كانت الثقافة المعنية قوية وواثقة من نفسها، فإنه لن يضرها التلاقح والتثاقف مع الثقافات الأخرى، بل على العكس من ذلك، يزيدها التداخل والتمازج قوة على قوة، وذلك مثل الحضارة العربية الإسلامية حين كانت بوتقة ثقافية تمازجت فيها مختلف الثقافات والحضارات، فكان ذلك قوة لها، ثم انتهت إلى الضعف والانكماش حين تقوقعت على نفسها، وأخذت تجتر ما لديها باسم الأصالة والحفاظ على نقاء الثقافة، حتى فاجأها الغرب الذي كان متقوقعا على نفسه، بحلة أخرى غير حلة القرون الوسطى، وثقافة جديدة لا علاقة لها بمدرسيات أرسطو، فأصبح بذلك سيدا للعالم الحديث.

الأمن الفكري والحفاظ على الذات والهوية لا يكون بالتقوقع أو العزلة أو إغلاق النوافذ والأبواب، أو بالخوف الهوسي من غزو ثقافي، أو بحماية مبالغ فيها، بقدر ما يكون في فتح النوافذ للشمس، والسماح بتلاقح الثقافات بكل حرية، فالنتيجة في النهاية هي لصالح الثقافة وإنسانها. أما الثوابت، وإن حاولت أطراف متعددة احتكار تعريفها وتحديدها، فلا أظن أن هنالك خوفا عليها. فالثوابت، التي تشكل الأسس التي يقوم عليها كيان الهوية، والأعمدة التي يقوم عليها بيت الثقافة الذاتية، ليست من الأمور النظرية التي يمكن أن يتناقش حولها، بل هي أمور معيشة قد لا نحسها أو نشعر بها، ولكنها موجودة نتلقاها ونمارسها من خلال البيئة الاجتماعية التي ننشأ بها، وذلك مثل الهواء الذي لا نستطيع أن نعيش من دونه، ولكننا لا نراه رغم أنه موجود.

لم يتناقش العرب الأوائل والمسلمون الأوائل بمن هو العربي ومن هو المسلم، لأنهم كانوا يعيشون هاتين الحقيقتين، أو لنقل الثابتين من ثوابت الهوية، فالعربي من كانت لغته الأم هو العربية، والمسلم هو من شهد بالشهادتين وأقر بأركان الإسلام المعروفة، عرف ذلك البسيط من الناس وغير البسيط. أما اليوم، فتجد أكثر من تيار يحدد من هو العربي، أو كيف يجب أن تفعل كي تكون عربيا حقيقيا، ومن دونه فإن عروبتك ناقصة (الأحزاب القوموية المتطرفة مثلا)، أو من هو المسلم «الحقيقي»، ومن دون ذلك فإن إسلامك تشوبه شائبة، إن لم تكن كافرا بالجملة والتفصيل (الأحزاب الإسلاموية المتطرفة مثلا)، وكل يحاول أن يستخدم سلاح «الأمن الفكري»، و«الغزو الفكري»، وما شابه ذلك من مفاهيم، وفق ما يراه ويعتقده، من أجل ترسيخ احتكاره ووصايته على الثوابت المختلف حولها.

عندما تكون الثوابت معيشة فكرا وسلوكا، فلا حاجة لتحديدها أو مناقشتها لأنها موجودة وفاعلة، وعندما تكون مثل هذه الثوابت مفترضة ولا وجود لها فكرا وسلوكا، فإنه من العبث مناقشة ما ليس موجودا، أو محاولة إحياء ما ليس حيا، ولنتذكر مقولة لغاندي لا أذكر نصها، ولكنها تقول ما معناه: «فلتهب الرياح في داري من كل الاتجاهات، ولكني لا أسمح لها أن تقتلعني من جذوري»، والرياح في الواقع لا تستطيع أن تقتلعك من جذورك حين يكون لك جذور شجرة باسقة، وبغير ذلك، تقتلعك بكل سهولة.