جولة ميتشل الأخيرة.. انطلاقة جديدة أم انتكاسة مدمرة؟!

TT

حتى اللحظات الأخيرة قبل أن ينتقل جورج ميتشل من مبنى المقاطعة في رام الله، حيث كان قد التقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، إلى القدس الغربية ليلتقي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كان الشعور العام السائد أن هذه الجولة الجديدة التي قام بها الموفد الأميركي فاشلة قبل أن تبدأ، وأنه لا أمل؛ لا في استئناف المفاوضات المتوقفة ولا ببزوغ ولو ضوء خافت وضئيل في نهاية النفق المظلم.

مع بداية هذه الجولة، التي من المفترض أنها الجولة التي تنهي انسداد الأفق وانطلاق المفاوضات المتوقفة، جاءت تصريحات الرئيس باراك أوباما التي أدلى بها لمجلة «تايم» الأميركية لتضفي على الأجواء الغارقة أصلا في التشاؤم تشاؤما جديدا ولتشعر الفلسطينيين والعرب بأن كل ما كان وعد به الرئيس الأميركي، خاصة في خطابه الشهير في جامعة القاهرة، قد ذهب أدراج الرياح، وأن الإدارة الجديدة التي بدأت واعدة قد عادت إلى الدائرة ذاتها التي كانت تقف فيها الإدارات السابقة وآخرها إدارة الرئيس جورج بوش (الابن) وطاقمه الذي كان منحازا انحيازا كاملا لوجهة النظر الإسرائيلية.

قال أوباما في تصريحاته هذه إنه بالغ في تفاؤله بإمكانية إنهاء الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي وحل قضية الشرق الأوسط في فترة زمنية قريبة، وهذا جعل أهل هذه المنطقة المعنيين وغير المعنيين يحكمون على جولة ميتشل الجديدة بأنها ستكون فاشلة، وأنه لا توجد هناك أي إمكانية لأي حلحلة بالنسبة لهذا الاستعصاء الذي طال أمده ما لم يتم ترحيل بنيامين نتنياهو وتحالفه كما كان رُحِّل في عام 1999 بتعاون مكشوف بين إدارة كلينتون وبعض أوساط السلطة الوطنية الفلسطينية والتيارات التي تعتبر يسارية ومؤيدة حقيقية للسلام في بعض الأحزاب الإسرائيلية، خاصة حزب العمل الذي يقوده الآن إيهود باراك.

في بداية هذه الجولة كان لدى الفلسطينيين إحساس بأن الأميركيين عاقدون العزم على إلزامهم بفعل ما لا يريدون فعله بالقوة، وأن ميتشل قادم إليهم بخيارات صعبة، وأن الإدارة الأميركية مصرة على أن يستأنفوا المفاوضات، وأن يجلس محمود عباس (أبو مازن) وجها لوجه مع بنيامين نتنياهو لقاء «ضمانات» غير واضحة وغير مؤكدة، وكانت الإدارات الأميركية السابقة قد جاءت بأفضل منها لكن كل شيء بقي على ما هو عليه وبقي نتنياهو على عناده وواصل الإصرار على استمرار الاستيطان، خاصة في القدس الشرقية.

عرض ميتشل على محمود عباس (أبو مازن) ما اعتبره بادرة حسن نوايا يقوم رئيس الوزراء الإسرائيلي بموجبها وترجمة لها بإطلاق سراح بعض الأسرى الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية وبالانسحاب من ما يسمى مناطق «ج» في الضفة الغربية وتسليم هذه المناطق للسلطة الوطنية، هذا بالإضافة إلى إزالة بعض الحواجز الإسرائيلية والتخفيف من الحصار الذي يفرضه الإسرائيليون على قطاع غزة.

وبالطبع، فإن الفلسطينيين قد رحبوا بهذا العرض وطالبوا بتنفيذه على الفور، لكنهم أكدوا للموفد الأميركي، الذي بدا أكثر إصرارا هذه المرة من أي مرة سابقة على العودة إلى بلاده وهو يحمل ولو إنجازا صغيرا ومحدودا بالإمكان أن يستخدمه باراك أوباما لتحسين شعبيته التي شهدت تراجعا كبيرا قياسا بما كانت عليه قبل عام، أن الأساس هو عملية السلام وليس هذه الإجراءات «المكياجية»، وأن المطلوب هو أن يلتزم نتنياهو التزاما صريحا ومن دون أي لبس أو أي ضبابية بوقف الاستيطان بكل أشكاله وبما في ذلك ما يتعلق بالقدس الشرقية وأن يعترف بحدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 كمرجعية للمفاوضات المتوقفة منذ عدة أعوام بسبب مواقف الإسرائيليين المتصلبة والعدمية.

لقد أكد الرئيس محمود عباس (أبو مازن) للموفد الأميركي أن ما يطرحه الأميركيون الآن من ضمانات كانت قد جاءت من خارطة الطريق ومن تفاهمات مؤتمر أنابوليس، وأن المشكلة تكمن في أن الإدارة الأميركية لم تكتف بأنها لم تمارس على بنيامين نتنياهو أي ضغوط حقيقية لحمله على تنفيذ هذه الضمانات المشار إليها رغم أنفه، بل إنها تراجعت عما كانت أعلنته خلال معركة الانتخابات الأخيرة وعما كان قاله أوباما بالنسبة للاستيطان وحل الدولتين والقدس الشرقية وحدود الدولة الفلسطينية المستقلة في خطاب القاهرة الشهير وبعد ذلك.

ولاستدراج الفلسطينيين للموافقة على ما جاء به وحملهم على استئناف المفاوضات ولو لمجرد جلسة «تلفزيونية» واحدة بين أبو مازن وبنيامين نتنياهو، فقد قال ميتشل للرئيس الفلسطيني ولمن شاركه من القيادة الفلسطينية في جلسة الاستماع للموفد الأميركي إنهم فهموا تصريحات أوباما الآنفة الذكر لمجلة «تايم» فهما خاطئا وإن هـــدف ما قاله (الرئيس) ليس إشاعة الإحباط واليأس بل لحفز الفلسطينيين والإسرائيليين على تجاوز الأمور «الشكلية والثانوية» واستئناف المفاوضات المتوقفة وطرح كل شيء على بساط النقاش والأخذ والعطاء في هذه المفاوضات، خاصة بالنسبة للقضايا التي تعتبر أساسية ورئيسية، ومن بينها حدود الدولة المستقلة والمستوطنات والقدس الشرقية واللاجئين وغير ذلك.

وبالطبع، فإن الفلسطينيين لم يقبلوا بهذا وهم أصروا على موقفهم السابق المتعلق بضرورة أن تكون حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967 ومن ضمنها القدس الشرقية هي مرجعية هذه المفاوضات التي يضغط الأميركيون من أجل استئنافها على الفور، مما جعل ميتشل يكشف النقاب عن أنه يحمل اقتراحا أكثر تقدما، وهو أن ينخرط الفلسطينيون والإسرائيليون في مفاوضات غير مباشرة، على غرار المفاوضات السورية - الإسرائيلية التي تمت بوساطة تركية، وأن يكون الإشراف على هذه المفاوضات للإدارة الأميركية من خلال مبعوثها إلى الشرق الأوسط ومن سيساعده في هذه المهمة.

وإزاء هذه الصيغة «المتقدمة» التي اقترحها ميتشل، والتي أكد أنها تحظى بموافقة الجانب الإسرائيلي، فقد أبلغ أبو مازن الموفد الأميركي بأن القضية الفلسطينية هي قضية عربية وأن عليه قبل أن يقول رأيه ورأي منظمة التحرير والسلطة الوطنية في هذا الأمر أن يأخذ رأي العرب جميعهم من خلال اللجنة التي كانت قد تشكلت من أجل هذه الغاية.

لم يرْتَحْ ميتشل لما أبلغه أبو مازن به، لكنه لم يرفضه بصورة مباشرة، وهذا دفعه إلى التقدم خطوة جديدة أخرى لحمل الفلسطينيين على استئناف المفاوضات بأي صورة وبأي طريقة بأن طرح على أبو مازن ضرورة تحقيق اختراق لهذا الجمود ولهذا الاستعصاء بمفاوضات على مستوى الصف الثاني بين مسؤول من هذا الطرف ومسؤول من الطرف الآخر، وأن تتركز المفاوضات خلال فترة قصيرة يتم الاتفاق بشأنها على حدود الدولة المستقلة المنشودة وعلى كيفية وقف الاستيطان، وقد تعهد الموفد الأميركي للرئيس الفلسطيني بأنه سيلزم رئيس الوزراء الإسرائيلي إلزاما بالموافقة بهذه الصيغة.

لكن أبو مازن أصر مجددا على أنه ملزم بنقل هذا الاقتراح للجنة المتابعة المشكلة من الجامعة العربية، وأنه قبل التجاوب مع هذا الأمر عليه التشاور أساسا مع مصر والأردن والمملكة العربية السعودية، ويبدو أن ميتشل تفهم إصـرار الرئيس الفلسطيني هذا الآنف الذكر، وأنه بعد اللقاء برئيس الوزراء الإسرائيلي يوم الأحد الماضي وبعد إقناعه بصيغة مفاوضات «واحد مقابل واحد» توجه إلى عمان لإبلاغ أبو مازن بالاستجابة الإسرائيلية لهذه الصيغة وللتباحث مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بما يمكن فعله للانتقال بعد هذه الخطوة إلى خطوة لاحقة.

وبهذا، فإنه يمكن القول إن جولة ميتشل الأخيرة لم تكن فاشلة فشلا كاملا، وإنه تمكن من إنجاز «حلحلة» وإن هو لم يستطع تحقيق «انطلاقة»، وإن الفلسطينيين والعرب يواصلون الإصرار على ضرورة أن يلزم الأميركيون الإسرائيليين بكل استحقاقات استئناف مفاوضات تكون مرجعيتها معروفة ويكون سقفها الزمني محددا، وإنه بغير هذا قد تداهم هذه المنطقة حرب مدمرة جديدة إنْ في اتجاه إيران وإن في اتجاه لبنان، سيترتب عليها، إن هي اندلعت، واقع غير هذا الواقع سيؤدي حتما إلى خريطة جغرافية وسياسية في الشرق الأوسط كله غير هذه الخريطة الحالية.