الجنوب إذا انفصل!

TT

لم يعد السؤال في السودان اليوم هو هل ينفصل الجنوب، بل ماذا سيحدث عندما ينفصل. فكل المؤشرات تدل على أن الانفصال بات أمرا حتميا، وأن بعض الكلام الذي يقال عن أن الأطراف المعنية تعمل من أجل إعلاء خيار الوحدة واتخاذ خطوات تجعل الجنوبيين يصوتون من أجل استمرار وحدة البلاد ورفض خيار الانفصال، لا يعدو أن يكون مجرد شعارات خاوية بعيدة تماما عن الواقع.

لقد كانت هناك فرص ولو ضئيلة لدعم خيار الوحدة لكنها بددت في المماطلات والمماحكات السياسية التي ربما جعلت الجنوبيين أكثر اقتناعا باغتنام فرصة الانفصال بدلا من الاستمرار في شراكة تنعدم فيها الثقة مع الشريك الآخر في الحكم، والبقاء في وضع قد تعود معه الحرب مجددا في دورة أكثر شراسة ودمارا من كل دورات الحروب السابقة.

فلو راهنت الحكومة على الوحدة منذ توقيع اتفاقية السلام لما سارت الأمور في اتجاه الانفصال بهذا الشكل المتسارع، ولكن الواقع أن الرهان كان على التشبث بالسلطة وليس بوحدة البلاد، ولذلك كان هناك من رأى في الاتفاقية فرصة لتهميش كل القوى السياسية الأخرى وإضعافها، بل ومحاولة لتفتيت الجنوبيين وإثارة المنازعات بينهم. وكانت تلك سياسة قصيرة النظر، ربما يدفع السودان ثمنها لاحقا. فالجنوب إذا أصبح دولة متناحرة ومتحاربة بعد الانفصال فإن المشاكل ستكون عابرة للحدود، وعدم الاستقرار سيمتد إلى الشمال الذي لن يكون قد فقد الجنوب فحسب بل وورث من ذلك المزيد من المشاكل والحروب.

كان بمقدور الممسكين بزمام القرار أن يوسعوا اتفاقية السلام وأن يختاروا طريق المصالحة الأوسع، التي تشرك كل القوى في السلطة، وتسمح بتضافر الجهود لوقف الحرب في دارفور، والتوجه نحو التنمية باعتبارها المفتاح للاستقرار، وأحد المحفزات الأساسية على البقاء ضمن سودان موحد. ولو حدث ذلك لكان الحكم السوداني أعطى فرصة حقيقية لمحاولة إنقاذ وحدة البلاد. ولكن الفرصة بددت تماما وراحت الأمور في اتجاه المناورات السياسية، ومحاولات تفتيت القوى السياسية وكأن ذلك هو الضامن للاستقرار والمحقق للوحدة.

وفي ظل أجواء عدم الثقة، انصرف الجنوبيون للتسلح ولوضع بنية تحتية لدولة الانفصال، من الاتصال الهاتفي بشبكة جوال ترتبط بأوغندا وليس بالشمال إلى تأسيس مكاتب اتصال في الخارج تعمل مثل سفارات. ولو كان هناك من يراوده شك في اتجاه الجنوب نحو الانفصال، فعليه أن ينظر مجددا إلى الطريقة التي صاغت بها الحركة الشعبية لتحرير السودان ترشيحاتها للانتخابات المقبلة، فقد اختارت الحركة رئيس مجموعتها البرلمانية ومتحدثها الرسمي ياسر عرمان مرشحا عنها في انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة، بينما اختار رئيس الحركة سلفا كير الترشح لرئاسة إقليم الجنوب. ولو كانت الحركة ترى فرصة ضئيلة لاستمرار الوحدة لربما طرحت رئيسها سلفا كير لمنافسة البشير في انتخابات رئاسة السودان.

وهذا لا يعني أن عرمان ليس من عناصر الحركة الشعبية الكفوءة والقادرة سياسيا، لكنه يعني أن البعض قرأ الخطوة خطأ على أنها اختيار لشمالي لكي ينافس في انتخابات رئاسة الجمهورية ممثلا عن الحركة الشعبية، في حين أن القراءة الأصح في تقديري هي أن ابتعاد سلفا كير عن انتخابات رئاسة الجمهورية يشكل أوضح مؤشر على أن الجنوب يتهيأ للانفصال ولا يرى في انتخابات رئاسة الجمهورية مخرجا أو ضمانا لاستمرار الوحدة. لقد انتظر الجنوبيون طويلا فرصة الانفصال التي قاتلوا لأجلها ما مجموعه حوالي 30 عاما، ولا يمكن تصور أنهم سيختارون التخلي عما يعتبرونه فرصة لانفصال سلمي، خصوصا بعدما وثق هذا الخيار في اتفاقية رسمية سيجري بموجبها استفتاء عام 2011 حول الوحدة أو الانفصال. لقد أضاع الشمال آخر فرصة ربما لإنقاذ الوحدة، والأمل هو ألا تعود البلاد إلى دوامة الحرب لمحاولة فرض وحدة بالقهر لن تتحقق وإن تحققت لن تدوم، فالخيار الوحيد العقلاني اليوم هو ترتيب البيت الداخلي ووضع الأسس التي تضمن انفصالا على الطريقة التشيكوسلوفاكية وليس على الطريقة اليوغوسلافية.

[email protected]