أولادك مع أولادي ضربوا أولادنا

TT

اقترح عليّ أحدهم أن أرافقه إلى مطعم صيني شبه شعبي، وأكثر رواده من المقيمين الصينيين، وفعلا ذهبنا، ولفت نظري ظاهرتان استهجنتهما في البداية، ولكنني تقبلتهما في ما بعد عندما عرفت السبب: الظاهرة الأولى هي ارتفاع أصوات الزبائن باستدعاء أو طلب «الغراسين»، فالمكان كله كان يضج بالأصوات العالية. والظاهرة الثانية هي رشفهم للحساء (الشوربة) بصوت مرتفع كذلك، وهم يقولون إن السبب في ذلك أنهم يقدمون الحساء حارّا جدّا، ولو أن الواحد وضع الملعقة الكبيرة في فمه فلا شك أن فمه سوف يحترق، لهذا هم يرشفون ومع رشفهم يدخل الهواء ويخفف الحرارة، قلت: «ولماذا كل هذه المعاناة؟ لماذا لا يتريث ويصبر الواحد منهم قليلا حتى يبرد الحساء ويشربه بهدوء؟» قيل لي: «إن ذلك ليس من التقاليد الصينية وهو يُعتبر عيبا».

عندها تذكرت رجال البادية المشابهين تماما للصينيين من ناحية ارتفاع وتيرة الرشف، ويتفوقون عليهم بأنهم بعد ذلك «يكرعون» ثم يحمدون الله كثيرا على النعمة.

ويختلف أهل الصين بالمصافحة عن بادية شمال الجزيرة العربية، فالصيني عندما يصافحك يمد يده لك وهي مرتخية ثم يضعها في يدك وكأنه يضع لحمة نيّئة، بعكس تلك الفئة من رجال البادية، فالواحد منهم يقبض على يدك ولا يطلقها، ويا ليته يكتفي بذلك فقط، ولكنه طوال الوقت يشد عليها ثم يرخي، ثم يشد ويرخي، ثم «يدعبس» بأصابعه على راحة يدك، ثم يأخذ يمطرك بالأسئلة دون أن يتوقف كأنه يشغل «أسطوانة مشروخة» قائلا: «كيفك؟ كيف أنت؟ وشلونك؟ وشلون العيال؟ والحمولة؟»!، ثم يعيد ويزيد دون أن يستمع أو حتى ينتظر أو يهتم بجوابك على أسئلته الروتينية التي لم يفكر بها أصلا، ولكنها خرجت من فمه حسب العادة، وقد يستمر على هذا المنوال خمس أو عشر دقائق دون أن يمل أو يتعب.

ولا أنسى رد فعل رجل من الحاضرة عندما مد يده مصافحا رجلا من رجال البادية تلك، وفوجئ به يضغط على يده ويلعب بها بأصابعه، وإذا به فجأة ينفض يده منه بالقوة، ويقفز مبتعدا عنه وقد جحظت عيناه من شدة الاستغراب والحذر، معتقدا أن ذلك الرجل غير طبيعي وأن له مآرب غير شريفة.

فتدخلت بينهما قائلا: اهدأ، اهدأ، فهذه عادة هدفها الاحترام والحفاوة.

* *

هو رجل تزوج وانفصل عن زوجته وله منها ثلاثة أبناء، وهي امرأة أرملة لها ابنان، وتزوج الرجل بالمرأة وخلفا ابنَين، وأصبح السبعة أبناء يعيشون معهما في بيت واحد، وما أصعب العيش مع قبيلة من خمسة أبناء متقاربين بالسن.

وفي أحد الأيام وبينما كنت جالسا مع ذلك الرجل رن تليفونه الجوال، وسمعته يتأوه قائلا: «حاضر، حاضر يا ستي سوف آتي حالا، مسافة السكة»، وأغلق التليفون قائلا: «الله يعين».

سألته منزعجا: خير إن شاء الله؟

قال لي: «أبدا يا سيدي، فزوجتي تستنجد بي قائلة: تعال بسرعة الحقني لأن أولادك مع أولادي ضربوا أولادنا».

* *

قالت له: «إنني أحبك»، ثم سألته: «وأنت؟».

فأجابها: «وأنا كذلك، أحب نفسي».

[email protected]