نشهد أن المسيح رسول الله وكلمته وروح منه

TT

بعلم وشجاعة ونزاهة ضمير، طرح السناتور الأمريكي مارك سلجاندر (الذي كان من أركان العداوة للإسلام في فريق المحافظين الجدد)، طرح قضية أن المسيح عيسى بن مريم كان مسلما من خلال اكتشافه أن (إسلام) كلمة تعني (الاستسلام لله)، ومن ثم فهي كلمة ينبغي أن يعتقدها ويتمثلها كل مؤمن بالله وبالنبيين الذين ابتعثهم الله لدعوة الناس إلى (الاستسلام لله) عز وجل.. تلك هي خلاصة مناقشاتنا - لسلجاندر - في مقال الأسبوع المنصرم.. ولقد أضاف سلجاندر طرْح قضايا أخرى، خليقة بالمناقشة والتحليل والبسط.. من هذه القضايا: تخطئة موقف المسيحيين الذين يعتقدون بأن للمسلمين موقفا سلبيا تجاه الإيمان بالمسيح. يقول سلجاندر: «وأعتقد أننا جميعا مدعوون إلى حب الله، وحب الأنبياء، وأنا أحب عيسى المسيح الذي يصفه القرآن بأنه رسول الله وبأنه روح منه وكلمته ألقاها إلى مريم. فعندما يقول المسيحيون: إن المسلمين لا يؤمنون بأن المسيح له هذه الصفات فهم يخطئون، لأن هذه الصفات موجودة في القرآن بالنص».. نعم.. نعم.. نعم. لقد نصت الآية (171) من سورة النساء على هذه الصفات للمسيح عليه السلام: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ».

وهذه مفارقات مفتراة وصادمة بلا ريب، إذ كيف يُتّهم المسلمون بأنهم لا يؤمنون بالصفات الخاصة والجليلة للمسيح على حين أن الإيمان بذلك (شرط صحة) في الإيمان بالله جل ثناؤه، وفي الإيمان بالكتاب الذي نزل عليه وهو القرآن المجيد؟!

ولأجل محو هذه المفارقات وإزالة هذه الأخطاء الجسيمة، ألفنا منذ سنوات (2006) كتابا بعنوان «علاقات الكبار: النبي محمد يقدم أخاه المسيح للبشرية».. ومن حق الباحثين - بنزاهة وتجرد - عن الحق والمعرفة - كسلجاندر وأمثاله - أن يتعرفوا على شيء مما جاء في ذلك الكتاب عن علاقة النبي محمد بأخيه - صلى الله عليهما وسلم -. فقد جاء مثلا - تحت عنوان: «النبي محمد يقدم أخاه المسيح للبشرية» - : «لو أن أكبر وأنجح الشركات الأمريكية والأوروبية للعلاقات العامة، احتشدت جميعا في تعاون وثيق، وجندت نفسها، وسخرت إمكاناتها البشرية والفنية والمادية من أجل (التعريف الطوعي المجاني) بـ(نبي الله عيسى)، وتقديمه للبشرية في أجمل صورة.. فماذا تقول الأسرة الإنسانية عن هذا الفعل؟.. وبم تصفه؟.. تصفه بـ(سعة الأفق) و(رقي العمل غير الربحي) و(الوفاء للمسيح الجليل)، إلى آخر الأوصاف الجميلة التي يستحقها عمل عظيم من هذا النوع - ولئن كانت هذه (خطة مُتخَيّلة) فإن هناك (حقيقة) تفوقها - بملايين الدرجات - في كثافة التعريف، وعمق مضمونه، وصدق أسلوبه وجماله، وحميمية روحه، وطول مداه الزمني.. هذه الحقيقة - الدينية والتاريخية والإنسانية والأخلاقية - هي أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم قدم أخاه المسيح عيسى بن مريم إلى الأسرة البشرية في أجمل صورة.. ولقد امتد زمن التعريف والتقديم منذ نزول الوحي على النبي محمد في القرن السابع الميلادي وإلى قيام الساعة. فهذا التقديم قرآن يُتلى في الصلوات، ويدرس في المدارس والجامعات، ويذاع في الإذاعات - المسموعة والمرئية بالغدو والآصال».. ثم أخذ الكتاب يقدم البراهين القطعية على حقيقة تقديم المسيح - إسلاميا - للبشرية في أبهى الصور وأجلّها وأصدقها وأرقاها سماحة.. ومن هذه البراهين:

1 - البرهان من القرآن:

أ - التعريف بمعجزة الميلاد: «فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا. يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا. فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا. وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا».

ب - التعريف بالإنجيل الذي أنزل عليه: «وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ».

ج - التعريف بمنهجه ودعوته، فهو منهج يدعو إلى إفراد الله تعالى بالوحدانية والعبادة: «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ».

د - التعريف بشخصيته الجميلة (الوجيهة) في الدنيا والآخرة: «إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ».

2 - البرهان من السنة، فقد قال النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم:

أ - «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة. والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد».

ب - «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان العمل».

ولذا فإن سلجاندر عندما قال: «إن القرآن يصف المسيح بأوصاف حقيقية وجميلة، وإن المسيحيين يخطئون حين يعتقدون أن المسلمين لا يؤمنون بالمسيح ولا بأنه كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه».. عندما توصل سلجاندر إلى ذلك فإنما عبر عن حقيقية دينية إسلامية وأفصح وأعلن، حقيقة نطق بها القرآن، وهتفت بها السنة.. وهذان هما المصدران الوحيدان اليقينيان للاعتقادات عند المسلمين.

واتجاه سلجاندر الفكري يمثل ومضة ضمير متسامح شغوف بلقيا الحقيقة - وإن خالفت ما ألِفه قومه من مألوفات شتى - .. ومضة ضمير متسامح في زمن مكسو بظلمة التعصب وضيق الأفق وإلف ما اعتاده الآباء والأجداد، على الرغم من وصف هذا الزمن نفسه بالحرية وانطلاقة الفكر، وعلى الرغم من تلألؤ مدنه بالأضواء!!

ويتعين - هاهنا - : اجتلاء المفهوم الحق للتسامح وهو أنه بقدر سعة عقل المرء والإنسانية وصدرهما وروحهما لـ«الحق كله»، يكون تسامحه، ويكون تسامحهما.. أنا متسامح.. وأنت متعصب.. لا، بل أنت متعصب، وأنا المتسامح.. هذه كلمات أو عبارات لا يزال الأفراد والأمم يتبادلونها، مدحا للذات بوصف التسامح، وذما للآخر بوصف التعصب.. ودوما يغلب «الهوى» على الواصفين في الطرفين كليهما، في أكثر الناس والأحوال.. والسبب هو «غياب المقياس الصحيح»، الضابط للوصف، المانع من الحيف.. فما المقياس الصحيح؟.. إن أجلّ وأضبط مقياس للتسامح هو: اتساع العقول والصدور والنفوس لـ«الحق كله»، وإجلال أهل الحق ومحبتهم، عبر الزمان كله، والمكان كله.. وبمقتضى هذا المقياس - فحسب - يوصف هذا الإنسان بأنه «متسامح»، وذلك الإنسان بأنه «متعصب».. ومن هنا كان من عزائم الإسلام ومن يقينياته التي كُلِّفها المسلمون، أن تتسع قلوبهم وعقولهم وأرواحهم لـ«الحق كله»: «قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ».. وبموجب هذا النص المحكم «يَحرم» على المسلم: أن يتعصب ضد أي نبي من أنبياء الله، وأن يغلق فؤاده دون محبته والإيمان به وتوقيره.

ونختم المقال بأمنية، إذ نأمل أن يكون لمارك سلجاندر حظ من قول الله جل ثناؤه: «الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا».