المعتدل المتطرف «اللابد» في جسم الدولة

TT

المنطق عند الشخص الطبيعي هو أداة للإقناع والاقتناع، للتوصيل والتواصل، أما عند المتطرف فهو وسيلة للخداع والانتصار على الخصوم، والخصوم هنا هم الآخرون، الآخرون كلهم خارج حدود جماعته. المنطق عند الإنسان الطبيعي هو مقياس للتفوق والإحساس بالكرامة، أما عند المتطرف فهو دلالة على البلاهة، لا بد من استغلالها لخداعك. بشكل عام، ما تعتز به كله، من مُثل عليا وقيم وأفكار، يراها المتطرف مناطق عجز وضعف، عليه أن يستغلها في الوصول إليك وتدميرك.

سأعطيك مثالين سريعين، الأول لأحد قادة الإرهاب، سافر إلى أميركا فاحتضنته أميركا، لأنه مضطهد دينيا وسياسيا في بلاده، بعدها بشهور تم إلقاء القبض عليه بتهمة التحريض على تفجير أحد المباني الكبيرة. وفي مجال دفاعه عن نفسه، قال: كيف أفعل ذلك في البلاد التي آوتني واحترمتني وأتاحت لي فرصة كريمة للحياة؟! هو يعرف أن الآخرين «البلهاء» يفكرون على هذا النحو وفقا للمنطق الصوري.. ليس من «المعقول» أن يفعل ذلك في البلد الذي قدم له هذا الخير كله. هو في غمار الرغبة في خداع الآخرين بالمنطق الصوري لم يتنبه إلى أن المحققين الجنائيين ليسوا ملتزمين بالمنطق الصوري، بل بالاستقراء، وهو معرفة ما حدث على الأرض فعلا بالأدلة والبراهين.

وإليك المثال الآخر من أيامنا هذه: شخص في صعيد مصر، انتظر خروج عدد من الأقباط من كنيسة بعد صلاة أعياد الميلاد، وأطلق عليهم النار فقتل سبعة أشخاص، وهرب إلى الزراعات، ثم قام بتسليم نفسه بعد مجهود كبير من رجال الأمن ووجهاء البلدة، وفي قاعة المحكمة صاح من القفص: يا سعادة القاضي، معقول أعمل عملة زي دي وبعدين أسلم نفسي؟!

الواقع أن واقعة القتل بتفاصيلها كلها شهد بها عليه زملاؤه الذين كانوا معه وقت الجريمة، على الرغم من حرصه على عدم الاعتراف. هو يعرف أن الآخرين يحترمون العقل والمعقول في الأشياء والسلوك البشري، هذه هي نقطة ضعفهم التي يجب أن يدخل إليهم عبرها. المحقق الجنائي المتمرس يلجأ على الفور في مثل هذه الحالة إلى عكس السؤال وتوجيهه إليه: فعلا، ليس معقولا أن تفعل ذلك.. احك لنا: لماذا فعلته إذن؟ هل كنت واثقا أنه لا أحد من زملائك سيشهد ضدك؟

لا بد أنك سمعت هذه الجملة كثيرا في مواقف كثيرة من صغار الكذابين: معقول أنا أعمل الحكاية دي؟!

لقد لجأت إلى استخدام مقولة واحدة من مقولات العقل وهو المنطق، غير أن العقل البشري يمتلئ بمقولات أخرى راسخة على هيئة مقاييس وقيم ومُثل عليا يستند إليها البشر في حياتهم اليومية وطريقة تفكيرهم، بغض النظر عن مستوى تعليمهم، والدرجة التي يحتلونها على سُلم الحضارة. وإذا كان الحذِر يؤتى من مكمنه، كما تقول الحكمة القديمة، فالمتطرف سيخترق صفوفك من خلال حصونك. لنفرض أن اسمك هو «إنجلترا»، فأنت تؤمن بحرية الإنسان في التفكير والتعبير، وبحتمية حماية المظلومين، ولذلك ستقوم بحماية من يلجأ إليك طالبا الحماية من القهر والديكتاتورية في بلده، بل وتعطيه نصيبا من ميزانيتك العامة لكي يعيش عيشة كريمة. هكذا سيقترب إليك المتطرف ليقول لك بصوت امتلأ بالعذاب: احمني يا مستر من القوم الظالمين.. هم يريدون القضاء عليّ، لأنني أفكر بشكل مختلف عنهم.. لديّ أفكار دينية يرفضونها ويريدون الاعتداء على حياتي.. أرجوك يا مستر.. «خدني لحنانك خدني.. عن الوجود وابعدني».

وعلى الفور، وبكل ما بداخلك من تراث ومعارك تاريخية خاضها أجدادك للحفاظ على حقوق الإنسان وإغاثة المظلومين، «ستأخذه لحنانك».. وبعد شهور يبدأ في إفساد حياتك وحياة مواطنيك وحياة الدنيا. أنت لا تعرف القمع، لديك شيء اسمه الديمقراطية، وهي تسمح لكل إنسان أن يعلن رأيه، هذا هو بالضبط ما سيفعله، سيقول رأيه لصغار العقول، وهو أن حضارة الغرب هي حضارة كفار، لا بد من القضاء عليها في أول فرصة.

ليست هذه دعوة إلى القسوة والكف عن الدفاع عن المقهورين والمظلومين، هذه دعوة إلى المزيد من فهم المتطرف، وآليات التفكير عنده. ما لم نفهم آليات التفكير عند صاحب العقل المتطرف، فستكون خسائرنا كبيرة عند التعامل معه، لأنه مسلح بأسلحة حقيقية، ولعل أخطرها الدين، والوطن. لست أتكلم عن المتطرف الديني الواضح، الذي يحمل سلاحا، أو يحشو نفسه أو يكسوها بالديناميت، لست أتكلم عن التلامذة التعساء، بل عن أساتذتهم السعداء بتدريس مناهج التطرف لهم. لا شأن لي بالمتطرف الواضح في الدين والسياسة، فهو من اختصاص أجهزة الأمن والسياسة. ما يعنيني في هذه المرحلة هو المعتدل المتطرف «اللابد» في جسم الدولة، الذي يعمل ويتكلم في براءة وحرية، ناشرا ثقافة التطرف بين الشبان، محتميا بالمنطق وحرص المجتمع على الاعتدال. هو أيضا يضرب المجتمع والدولة من خلال لوائحها وقوانينها، وذلك بوضع العصي في دواليبها، من خلال مقولات معتدلة ظاهريا، تؤدي حتما إلى الفرقة والصراعات المعطلة لتقدم المجتمع، وهو ما يشكل بالنسبة إلى رجل الدولة مشكلة حقيقية. المعتدل المتطرف «اللابد» في جسم الدولة عادة ما يكون مشتغلا في قسم أو إدارة من إدارات الدولة، ويريد تذكيرها دائما بقدرته على تعطيلها والإساءة إليها، غالبا بدافع من الرغبة في ابتزازها، أو بالهجوم الشخصي على زملائه المعتدلين المجددين، الذين يعملون على ترقية مجتمعهم، لكي يفخروا به أمام العالمين، كيف تتصرف الدولة معه بغير أن تسيء إلى سمعتها باعتبارها دولة متحضرة؟

أريدك أن تلاحظ أن معظم المعتدلين المتطرفين «اللابدين» في جسم الدولة، هم موظفون يأكلون الشهد والعسل على مائدتها، ويطمعون في المزيد، هنا يكون الرد هو: اتفضل حضرتك بعيدا عن حضن الدولة ومناصبها.. أو في حالة الرأفة والرحمة، ينقل إلى مكان بعيد بمخصصات أقل. المطلوب في التعامل مع المتطرف أن يفهم بشكل واضح أنك على وعي بكل ما يريده ويفكر فيه، وأنك تعاقبه على ذلك، وأنه لن يكسب شيئا بمناوأة الدولة ومعاكستها. وفي الوقت نفسه، عليك أن تقوم بحماية كل مفكر يعمل على تحسين الحاضر لصنع مستقبل أفضل. الخوف هو قانون المتطرف، أن يخيفك أو تخيفه أنت، وعليك أن تختار.