بانتظار خطوة واشنطن التالية

TT

«أعجب من موزّعي الأوسمة الذين يشكروننا على مقاومتنا قبل عام 2000، ويقولون إن وظيفتكم انتهت».

(الشيخ نعيم قاسم، نائب أمين عام حزب الله)

أعتزّ بأنني عرفت في فترة دراستي زميلا إيرانيا مهذبا وخلوقا، تابع قسما من دراسته الثانوية ثم أكمل المرحلة الأولى من دراسته الجامعية في لبنان. ولكن في ما بعد انقطعت أخباره عني إلى أن قرأت اسمه وقد أصبح مندوب إيران في وكالة الطاقة الذرية في فيينا. ثم بعد بضع سنوات، أوكل إلى زميل الدراسة السابق، الذي هو الدكتور علي أكبر صالحي، منصب رئيس الوكالة النووية الإيرانية.. وهكذا غدا المسؤول الأول - غير السياسي – عن الملف النووي الإيراني.

هذا الرجل الخلوق اللبق والذكي جدا، بدليل أنه يحمل درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (الإم آي تي) أرقى معاهد الهندسة والتكنولوجيا في العالم.. عندما يتكلّم يعرف جيدا ما يقوله. وأحسب أنه، يعرف أيضا، لماذا يقوله.

في الأسبوع الماضي أدلى الدكتور صالحي بتصريح قال فيه إن «إيران اليوم هي إحدى الدول الـ15 الأكثر تقدما في المجال النووي على مستوى العالم». وأردف، إنه بينما تمتلك باكستان القنبلة النووية فعلا، فإن إيران أكثر تقدّما منها على الصعيد التقني.

أنا شخصيا ميّال إلى تصديق كلام الدكتور صالحي أكثر من تصديقي تبجّح الرئيس محمود أحمدي نجاد، الذي تحدث بالأمس عن أن لدى إيران اليوم 50000 جهاز طرد مركزي قادرة على تخصيب اليورانيوم لنسبة 80%. غير أن ما لفتني في تصريح زميل الدراسة السابق هو الرسالة المقصود توجيهها.

فالرسالة، بلا شك، سياسية. والمقصود منها، على الأرجح، أن تُرصف رَصفا مع باقي التصريحات والمواقف العلنية المتبادلة بين إدارة الرئيس باراك أوباما في واشنطن والقيادة الإيرانية.

والملاحظ اليوم، بل منذ بعض الوقت، أن الكلام الصادر عن طهران يندرج ضمن ثلاثة اتجاهات:

- الاتجاه الأول، يتمثل في الكلام الدبلوماسي الذي يعرض التفاوض وتسهيل التوصل إلى تفاهم من نوع عرض التخصيب في دول خارج إيران، وإبداء الحرص على مواصلة الحوار.

- الاتجاه الثاني، يتمثّل في تأكيد «ثوابت» معينة، كالقول إن موضوع تطوير القدرات النووية الإيرانية موضوع يحظى بإجماع في الساحة الإيرانية، بصرف النظر عن الاختلاف في وجهات النظر. ومن ثم، فإن أي تصوّر عند القوى الغربية - أو حتى الشرقية - المناوئة لإيران بأنها قادرة على إحداث «شرخ» داخل الشارع الإيراني في المسألة النووية.. تصوّر واهم تماما.

- الاتجاه الثالث، يتمثل في الإعراب المتزايد عن الثقة، إما بعجز أعداء إيران عن فعل أي شيء معها، أو بانعدام الرغبة لديهم عن خوض مجازفة باهظة التكلفة في هذا الاتجاه.

اليوم ينخرط الجميع، على مختلف المستويات وفي أكثر من مكان، في تساؤلات قلقة عن مدى جديّة احتمال اندلاع مواجهة جديدة في الشرق الأوسط، ستكون إذا حصلت، مختلفة عن كل سابقاتها.. رقعة وتدميرا وتداعيات. ومكمن القلق الأساسي هو أن اللاعبين الأساسيين الكبار يتصرفون بالضبط كطرفي النموذج «الميكروكوزمي» الأصغر على جانبي «الخط الأزرق» الفاصل بين لبنان وإسرائيل.. ممثلا في حزب الله اللبناني والجيش الإسرائيلي.

المعنى المقصود هنا، أنه في حين يبدو - نظريا - من مصلحة الجانبين ضبط النفس وتحاشي التسبّب بدمار متبادل و«خسائر سياسية» متبادلة أيضا، فإن المتغيّرات المتسارعة سياسيا وتسليحيا تدفعهما دفعا للتهيوء إلى أسوأ الاحتمالات. وضمن التحضير لأسوأ الاحتمالات يأتي التمويه في تقديم المطالب واستدراج العروض، ورفع سقف التهويل بالحسم، ومعه رفع معنويات الساحة الداخلية وفق اعتبارات «تعبويّة» واضحة.

الاستراتيجية الإيرانية، سواء عبر أناتها ونفسها الطويل أو عبر بطش «الباسداران» الذي غدا جزءا أساسيا وفاعلا في مؤسسة السلطة، بات من المفترض أن تكون مفهومة. ولكن ماذا عن المجتمع الدولي؟.

منذ بداية التعاطي الغربي مع العالمين العربي والإسلامي في مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 كان ثمة تمييز واضح في الأولويات. لكن الخياران الأساسيان كانا يتمثلان - باختصار شديد - إما بفتح المعركة مباشرة مع «التطرف القاعدي – الطالباني» السنّي بدءا من أفغانستان وتوسّعا نحو مناطق المجابهات المحتملة الأخرى، وهو ما يعني استرضاء إيران وغض الطرف عن امتداداتها الاستراتيجية داخل الدول المجاورة وغير المجاورة. أو رسم استراتيجية متكاملة تقوم على الفهم العميق لخلفيات هجمات 11 سبتمبر، و«آيديولوجية المظلومية» الإسلامية التي تعاني من ازدواجية المعايير، كما يطبّقها الغرب في عدد من نقاط العالم الساخنة، وعلى رأسها فلسطين. كما نذكر جيدا، جرى قنص الخيار الثاني، أي استراتيجية فهم خلفيات ما حدث في 11 سبتمبر، وذلك عبر ترويج بعض «اللوبيات» الأميركية النافذة ذلك السؤال المسموم «لماذا يكرهوننا؟».. ومن ثم التطوّع بالإجابة عليه من قاموس «اللوبي الإسرائيلي الليكودي».

بطبيعة الحال، كان في صميم مصلحة «اللوبي الليكودي الإسرائيلي» تحويل أصابع الاتهام بعيدا عن أهم عنصر محفز ومحرك لـ«آيديولوجية المظلومية» الإسلامية. وبالتالي، اعتمد الخيار الأول تحت شعار «تجفيف منابع الإرهاب»، من دون تجشّم عناء تعريف الإرهاب أو البحث في درجاته ومسبّباته. وانطلقت الحملة من أفغانستان، لتمتد إلى العراق وما بعد العراق.

منذ ذلك الحين، وحتى التصعيد الكلامي وعرض العضلات الأخير بين واشنطن وطهران، ساهم كل من الذكاء الإيراني، والاندفاع الأميركي الأهوج، والتآمر الفتنوي الإسرائيلي في إبقاء منطقة الشرق الأدنى، بالذات، «أرضا مفتوحة» بلا سقف ولا جدران ولا قدرات ذاتية حافظة.

بالنسبة لإيران، وفّرت هذه «الأرض المفتوحة» فرصة للاختراق والتوسّع، ومن ثم التحصّن. وفي حساباتها أنه إذا ظلت الظروف مواتية ستتمكن من قطف ثمرة هذا الأمر الواقع. وإن تغيّرت المعطيات، قاتلت خصومها خارج أرضها، وجعلت من تكلفة أي مواجهة معها عالية إلى درجة تجبر الغرب وإسرائيل على صرف النظر عنها.

وبالنسبة لإسرائيل، كان الهدف الاستراتيجي ولا يزال زجّ المنطقة في حروب وفتن أهلية ومذهبية لا تنتهي. وعليه، فإن «البعبع» الإيراني الشيعي المتنامي القوة سيستفز، عاجلا أم آجلا، رد فعل مذهبيا مقابلا.. «قاعديا» كان أم غير ذلك.

لكن ماذا عن الغرب، وبالذات أميركا؟

إلى متى ستظل تهرب واشنطن من الأسئلة الصعبة؟ وهل ستبقى لديها أوراق كافية تلعبها بعدما استهلكت الكثير الكثير من حسن الظن؟