الفجل الأبيض في اليوم الأسود

TT

الأحداث الصغيرة تبدو صغيرة إلى أن ندرك تداعياتها وآثارها. أحد هذه الأحداث نشرته الصحف ولم يفطن إليه كثيرون. فقد أقدمت إسبانيا على إصدار قانون يحرم الإعلان عن جراحات التجميل والماكياح وعقاقير تخفيض الوزن وعلاجات السمنة في ساعات الذروة. وجاء في حيثيات القرار أن ثقافة عبادة الجسد باتت تهدد الأجيال الجديدة من المراهقين والشباب.

تبين أن ثالث أكبر ميزانيات الإعلان في إسبانيا هي إعلانات تستهدف النساء والفتيات. فقد أنفق قطاع الإعلان عام 2008 خمسمائة مليون يورو علي سبعة آلاف إعلان تشبه القنابل الذكية الموجهة نحو الإسبانيات. في عام واحد انطلقت لتعلن عن وسائل تخفيف الوزن. وكأن الآلاف السبعة لم تكف فظهرت خمسة آلاف وخمسمائة إعلان أخرى للترويج لمستحضرات التجميل. فإذا كانت ميزانية الإعلان تبلغ خمسمائة مليون يورو فكم تكون الأرباح؟ علما بأن كافة تلك المنتجات وكافة الإعلانات عن عيادات جراحة التجميل تخضع لقانون العرض والطلب. أي أن أحدا لا يحملني قسرا إلى عيادة جراح التجميل أو يضع يده في جيبي لإخراج حافظة نقودي عند شراء أقراص أو مساحيق أو كريمات يوهمني الإعلان بأنها تهبني جاذبية لا تقاوم وشبابا لا يفنى.

وجاء في حيثيات القانون الجديد أن هذه الإعلانات تضاعف خطر الإصابة بأمراض الانوركسيا والبوليميا لأنها تؤثر سلبا على إحساس البنت بصورتها الذاتية. فالإعلانات الموجهة تحمل رسالة بأن الحصول على الصورة المثالية التي تروج لها الإعلانات يحمي المستفيدة من أن تصير منبوذة اجتماعيا بسبب شكلها الخارجي. وتوحي أيضا بأن النجاح الوظيفي والاجتماعي مرهون بالوزن المثالي والشكل الخارجي المقبول إعلانيا.

وعليه فقد قررت الحكومة الإسبانية أن تمنع المعلن من نقل رسالة للشباب فحواها أن الشكل الخارجي للإنسان هو الأهم وأن فرص النجاح مرتبطة بالقد المياس والأنف الأشم والشفاه الغليظة المنفوخة.

الحقيقة هي أنني سعدت جدا بالخبر بقدر ما أغضبني الإعلان عن كريم تفتيح البشرة الذي تحمله المجلات والقنوات العربية. فهو إعلان يحمل رسالة خبيثة توهم المتلقي بأن تفتيح البشرة يساوي فرصة لقدوم العريس وإقامة الأفراح والليالي الملاح وارتداء الثوب الأبيض والطرحة وسط فرحة الأهل والأحباب. فضلا عن أنها رسالة عنصرية تفترض أن البياض أفضل من السمار.. في تلك المناسبات فقط كنت أنعى حظي لأنني لا أمتلك ثقافة علمية متطورة تمكنني من تحليل عينة من الكريم الملعون والاطلاع على مكوناتها. فمن غير المعقول أن يؤدي استعمال أي كريم إلى تغيير لون البشرة من السمار إلى البياض إلا باستخدام مواد كيميائية للتقصير وهي مواد حارقة مؤذية على أقل تقدير.

فرحت بالخبر الإسباني ولكن فرحتي لم تدم. ففي اليوم نفسه وصلتني رسالة على الإنترنت تدعو النساء والفتيات لتناول الفجل الأبيض لتذويب الدهون والفجل الأحمر لتمليس الشعر ومضاعفة لمعانه. ولم تذكر الرسالة شيئا عن آثار الإفراط في تناول الفجل على الأمعاء والمصران الغليظ. باختصار: الفجل الأبيض لا ينفع في اليوم الأسود لأنه إذا دخل الفجل من الباب هرب الزوج من الشباك.

المسألة بسيطة للغاية. بعيدا عن ثقافة الاستهلاك تصبح ثقافة عبادة الجسد حماقة ما بعدها حماقة. هل يمكن أن يكون غلاف العلبة أهم من محتواها؟ أين قيمة ذكاء العقل والفؤاد؟ وقيمة الكلمة الطيبة والابتسامة الودودة؟