الكتاب.. لو سمحت

TT

ابتسم لي موظف الجمارك في مطار عاصمة عربية، وقال لي: من فضلك يمكن أن تخبرني بما داخل هذه الحقيبة؟

قلت له: بعض الكتب، وملابس وحاجات سفر.

رد وهو يبتسم أيضا: أرني هذه الكتب.. ما هي هذه الكتب؟!

هنا خفتت الابتسامة قليلا، وخشيت من التأخير الكثير، وليس لي طاقة بملاحقة أي جهة تحال إليها كتبي التي اشتريت.

لكن لا بد من الخضوع للنظام، فتحت له الحقيبة، وأخذت يده تجول بين عناوين الكتب، ثم عاد وسألني:

ماذا بهذه الكتب؟ قلت له: كلام المؤلفين.

قلب وقلب، كتاب لأحمد أمين ألفه عن قاموس العادات الشعبية في مصر، وآخر عن مختصر تاريخ الزمن لستيفن هوكنغ، وكتاب عن التصوف والسياسة..

مل الموظف وضجر، أعاد لي الكتب، وهو يقول: أنا لم أرد تعطيلك، وقد «مشيت» الموضوع من عندي، تقديرا لك، وإلا فإن القصة ليست سهلة، كان يجب أن أحيل الكتب إلى «الجهات المختصة»! وأقلقني هذا التعبير الغامض.

عموما شكرت الرجل على لطفه وانصرفت وأنا أفكر، ماذا لو أخذ الكتب وأحالها إلى «الجهات المختصة»؟ كنت، أنا أو أي مواطن عربي غيري، فقط سنتذمر، ونحاول الحصول عليها إما عن طريق مواقع تحميل الكتب على الإنترنت، وهي بازدياد، وبنقرة واحدة يمكن إنزال الكتاب المطلوب إما على صيغة مصورة بشكله الأصلي (pdf) أو على هيئة نص مرن (word) وإن لم نجده في الشبكة فسنطلبه بالشراء المباشر عن طريق المواقع المخصصة أيضا لبيع الكتب، وإن غُلبت الروم سنطلب من صديق أن يجلبه لنا معه في إحدى سفراته، أو ببساطه ننتظر السفرة المقبلة، وليس بالضرورة أن تكون لبلد بعيد، فنقرأ الكتاب في الخارج بكل اطمئنان..

الفكرة أن أداة الحجب والمنع التي قام بها الموظف كان يمكن أن تكون فعالة في التحكم والرقابة قبل عصر الإنترنت والفضائيات وسهولة السفر، لكنها الآن، في ظل هذا «الفيضان» المعلوماتي، تعتبر أداة عتيقة غير فعالة، كمن يحاول أن يفتح أو يغلق باب غرفة فندق حديث من فئة الخمس نجوم بمفتاح خشبي لبيت طين! ليس العيب في المفتاح ولا في غرفة الفندق الحديث، بل فيمن يحاول وضع الأداة في غير مكانها ولا زمانها.

أذكر أنني حضرت لقاء بصحبة مجموعة من بعض الصحافيين والكتاب مع وزير إعلام عربي، فسألته عن الجدوى من فكرة حجب الكتب أو الرقابة عليها في المطارات والمنافذ الحدودية، في هذا العصر الإنترنتي؟ كان رده ذكيا، حيث قال: نحن نعلم أن الحجب لن يكون حائلا دون الشخص وقراءة ما يريد، الحجب أو الرقابة من الوزارة هي مجرد «تسجيل موقف» وإعلان رسالة معنوية ضد هذا الكتاب أو هذا المنتج الإعلامي، أكثر منه وسيلة حرمان للجمهور أو للراغب الفردي من الاطلاع عليه! تظل وجهة نظر بيروقراطية رشيقة وذكية، لكنها غير عملية.

بصرف النظر عن تحديد أي بلد عربي ، يجب القول إن الأنظمة والقوانين إنما توضع لترتيب وتنظيم حياة الناس، وتوضيح الحقوق والواجبات، وتثقيف العموم بدوائر الحركة المسموحة والمحظورة، ويفترض أنها تزيد في دوائر السماح وتنظمها، وتضيق مساحات المحظور وتوضحها، ولا عيب في إلغاء قرار أو قانون قديم إذا فقد صلاحيته الزمنية والعملية، فهذه القوانين والأنظمة هي لخدمة الإنسان وليست غلا وقيدا عليه، مثلا: إذا ما ظلت أسورة على معصم طفلة تنمو وتكبر، دون أن تغير أو تخلع هذه الأسورة التي كانت لتزيين الفتاة، فإنها ستتحول إلى قيد لن يمنع ذراع الفتاة من النمو، فحسب، ولكنه سيجعله نموا مشوها لأنه وقف في طريق نموه الطبيعي..

المنع هو الإجراء التلقائي الذي يتخذه المجتمع أو الفرد - ليس هذا خاصا بدين دون دين أو ثقافة دون ثقافة - إزاء أي جديد حتى يتبين معالم هذا الجديد ويتفرس ملامحه أو يجد منه فائدة له وتسهيلا لحياته، كما حصل مع التليفون والسيارات والراديو والتلفزيون.. والمطبعة.

وعلى ذكر المطبعة، يجب أن نتذكر أنها وإن بدت الآن «أنتيكة» وشيئا قديما، فإنها كانت حين دخولها إلى عالم المسلمين شيئا مرعبا وبدعة شريرة، وفتحا لمجال العبث والتلاعب بنقاء الماضي المستقيم، وقد صدرت فتاوى من علماء الآستانة عاصمة الخلافة العثمانية بتحريم المطبعة، خصوصا طبع القرآن الكريم بحجة أن ذلك اعتداء على حرمة الكتاب المقدس، وانسحب هذا التحريم إلى بقية الكتب الدينية والفقهية.

يحدثنا الباحث اليمني أحمد الحبيشي في مقالة ممتعة له بهذا الخصوص أن: «العالم الإسلامي عرف الطباعة لأول مرة في أوائل القرن السادس عشر في الآستانة عاصمة دولة الخلافة العثمانية، لكن الفقهاء قاوموا وجودها بقوة، الأمر الذي دفع يهود الدولة الإسلامية إلى الاستفادة منها بطبع ترجمة عربية للتوراة، أما الطباعة باللغة العربية فقد دخلت العالم الإسلامي لأول مرة في منتصف القرن الثامن عشر على يد محمد جلبي وابنه سعيد.. وكان الجلبي سفيرا للدولة العثمانية في باريس فشهد وابنه سعيد فوائد الطباعة، ونجح بصعوبة بالغة في إقناع الفقهاء الذين أصدروا عام 1728 م فتوى بطباعة الكتب غير الدينية فقط».

من المهم هنا أن نستحضر الجوانب الخفية في ترويج فتوى تحريم المطبعة في الزمن الوسيط للدولة العثمانية، فعلى مستوى المصالح الصغيرة كان في انتشار الطباعة ضربة قاصمة لسوق الخطاطين والنساخ الذين كانوا يحتكرون مكاتبات الدولة وكتب الفقهاء والأدباء والشعراء، وكل ما يعنيه ذلك من سطوة وحظوة ومال. وعلى مستوى المصالح الكبيرة كان في انتشار أسلوب الطباعة، وسهولة التأليف والتداول الأفقي للمعلومات، ضعف في سيطرة الدولة المركزية في الآستانة على حركة الكتاب والنشرات وصعوبة الرقابة عليها، أي إن في ذلك رواجا للمعلومات والأفكار غير المحبذة، لكن في النهاية تم التغاضي عن كل هذه الهواجس لصالح المصالح الأكبر للدولة والمجتمع، ورأينا أن مؤسس مصر الحديثة و«الوالي» العثماني محمد علي باشا يصبح رمزا من رموز تاريخ المطبعة الحديثة في الشرق الأوسط عبر مطبعة بولاق الشهيرة.

المنع أو الرهان على عدم قدرة الفرد أو المجموعة على الوصول للمعلومة أو التحكم بكيفية وصولها إليه هي رهانات مفيدة على المدى الزمني القريب، لكنها رهانات خاسرة على المستوى الزمني المتوسط والبعيد، فالمعلومات مثل الهواء لا يمكن حجبه كثيرا، خسر هذا الرهان في زمن الصراع بين المحبرة والمطبعة، ويخسر الآن في عصر الصراع بين المطبعة والإنترنت..

الأسلم والأقرب والأشجع هو التعامل مع المعلومات والثقافة المتنوعة بشكل مفتوح، والاستعداد لتقبل تغيير الرأي إذا ما ظهر خطله بحجة ودليل جديد، كما حصل الآن، وأيضا بفضل العلم الحديث، حول مومياء الفرعون المصري الشهير توت عنخ آمون.

حيث أجاب العلم الحديث عن أسئلة محيرة حول الفرعون الذهبي الذي رقد 30 قرنا في تابوته، بانتظار لحظة الكشف عن المرض الذي تسبب بوفاته، وهو الملاريا كما قال الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار المصرية زاهي حواس. كما كشف أن الملك الشاب كان أعرج، مما يفسر وجود تسعة عشر عكازا في مقبرته، عكس ما كان علماء المصريات يعتقدون أنها للدلالة على عظمة الفرعون، وأكدت التحاليل أن توت عنخ آمون هو ابن الفرعون إخناتون، فرعون التوحيد وبذلك تم استبعاد فرضية أن يكون ابن الملك أمنحتب الثالث والملكة تي، كما اعتقد كثيرون من قبل. وأيضا كشفت نتائج التحليل أن الفرعون الصغير لم يكن ذا طبيعة أنثوية ناعمة كما كان يظن بسبب بعض التماثيل له التي تظهره بشكل أنثوي.

كل هذه الأفكار التي ربما كانت ستبنى عليها أوهام تاريخية، وبالتالي آيديولوجية، وبالتالي تتكون على تلال هذه الأوهام كتل اجتماعية، كلها اتضح، بالعلم والمعلومة، أنها أوهام، تبقى في عالم الأدب والأساطير لكنها ليست في رسم العلم والوقائع.

ليتنا ندع أضواء المعرفة تكنس الظلمة، فالعاقبة دوما ستكون حميدة حتى ولو بدت قاسية في الوهلة الأولى.

[email protected]